اليوم :24 April 2024

العوامل‌ التي‌ أدّت‌ إلی‌ تفسير معارف‌ القرآن‌

العوامل‌ التي‌ أدّت‌ إلی‌ تفسير معارف‌ القرآن‌

(كتبت هذه المقدمة بعد إكمال التفسیر سنة1392 هـ.ق)
إنّ‌ هذا العبد الضعيف‌ لم يكن يجترىء على أن‌ يقوم‌ بكتابة‌ تفسير للقرآن‌ الكريم‌، لكن‌ الله‌ سبحانه‌ وتعالی‌ هيأ الأسباب‌ بفضله‌ وكرمه‌ وهو الفعال‌ لما يريد، وقصّة‌ ذلك‌ أن‌ّ الإذاعه‌ الباكستانيه‌ طلبت‌ مني‌ إلقاء دروس‌ تفسيريه‌ كل‌ يوم، ‌فلم ‌أستطع‌ الموافقه‌ علی‌ ذلك‌ لأجل‌ أعذار حدثت‌ لي‌، فاقترحوا إلقاء درس‌ أسبوعي‌ تحت عنوان معارف‌ القرآن‌ حول‌ آيات ‌مختاره‌ تسلط‌ الأضواء علی‌ قضايا معاصرة‌ وتضيء للمسلمين‌ شؤون‌ دينهم‌، فقبلت‌ ذلك‌ علی‌ أن‌ لا آخذ أجرا عليه، ولا يكلفوني‌ بشي‌ء لا يناسب‌ شأن‌ القرآن‌ الكريم، فوافقوا علی‌ هذين‌ الشرطين‌.
فبدأنا دروس التفسير في‌ الإذاعة‌ تحت عنوان‌ معارف‌ القرآن‌ من‌ الثالث‌ من‌ شوال‌ سنة‌ 1373هـ. واستمرت ‌ إحدی‌ عشرة‌ سنة‌، وفي ‌سنة‌ 1964 الميلادي‌ أوقفت الإذاعة هذا البرنامج‌‌، و‌كان التفسير قد بلغ إلی‌ سورة‌ ابراهيم، ويجدر بالذكر أني‌ كنت‌ أختار تفسير الآيات‌ التي‌ يسهل‌ فهمها علی‌ عامّة‌ الناس‌، وأدَع‌ الآيات‌ التي‌ يصعب‌ فهم‌ تفسيرها عن‌ طريق ‌الإذاعة‌، كما أدَع‌ الآيات‌ المكررة‌، ولم‌ أتفكر آنذاك‌ أنّ‌ هذه‌ الدروس‌ سوف‌ تتكون‌ كتابا في‌ التفسير يلقى قبولا بين الناس‌.
لمّا بثّت دروس التفسير وصلت إلی‌ الإذاعة خطابات‌ ورسائل‌ من‌ الأصقاع‌ البعيدة، من داخل‌ باكستان‌ ومن ‌مسلمي‌ البلاد الإفريقية‌ والأوروبية‌ وغيرها، تلك الرسائل كانت تدل‌ علی‌ أن الناس يستمعون‌ هذا البرنامج‌ ويستفيدون‌ منه،‌ وكان‌ بث‌ّ البرنامج‌ في‌ إفريقا يصادف‌ آخر الليل،‌ فكان‌ الناس‌ يسجلونه‌ ليستمعوه‌ في‌ النهار مرات‌ عديدة‌، وجاء الطلب‌ على أن‌ تنتشر هذه‌ الدروس‌ في‌ صورة‌ الكتاب‌، فارتفعت‌ همّتي‌ نظراً إلی‌ شوق‌ المسلمين،‌ وواظبت‌ علی‌ مواصلة‌ البرنامج‌ مع ‌ضعفي‌ وأمراضي‌ أحد عشر عاماً، ولما توقّف البرنامج عام‌ 1383هـ. اقترح‌ كثير من‌ الناس‌ بطباعة‌ الدروس‌ التي تمّ إلقائها في الإذاعة وإكمال‌ ما ترك‌ من‌ تفسير بعض‌ الآيات‌، فشرعت‌ في‌ ذلك‌ متوكلاً علی‌ الله‌ سبحانه‌ وتعالی‌، وفي‌ السادس‌ من‌ صفر عام‌1383من‌ الهجرة‌ جددت‌ النظر في‌ تفسير سورة‌ الفاتحة‌ ووصلت‌ إلی‌ البقرة‌ وكان‌ العمل‌ يطلب‌ جهداً مضنياً، ولم ‌تسمح‌ الظروف‌ والأمراض‌ بذلك‌ فانقطع‌.

إكمال التفسير رغم الأمراض الشديدة
مرضت‌ عام‌ 1388هـ. فاشتد المرض‌ حتی‌ أعذرني‌ من‌ القيام‌ في‌ الصلاة،‌ ولم استطع‌ صيام‌ أيام‌ من‌ شهر رمضان‌، وعاد إلی ‌رجلي‌ داء النقرس‌ القديمة‌، ولم‌ ينفعني‌ العلاج‌، ولم‌ تتحسن‌ الحال‌ وطال‌ المرض‌ عشرة‌ أشهر، فكنت‌ بين‌ الموت‌ والحياة،‌ وصرت‌ عاجزاً عن‌ المشي‌ وإنجاز أي‌ّ عمل‌، وقلّ‌ رجاء الحياة‌ في‌ّ، وكان‌ يؤسفني‌ أني‌ لم‌ أجدد النظر إلی‌ ما انتهت كتابته من‌ التفسير وقد خشيت‌ ضياعه‌، فوفقني‌ الله‌ سبحانه‌ وتعالی‌ وزادني‌ همة‌ ونشاطاً، فبدأت‌ من‌ شوال‌ 1388هـ. في ‌المراجعة‌ والتصحيح‌ وأنا علی‌ فراش‌ المرض‌، فأكمل‌ الله‌ سبحانه‌ وتعالی‌ سورة‌ البقرة‌ في‌ الخامس‌ والعشرين‌ من‌ ذي‌ القعدة‌، فأرسلت‌ ما اكتمل‌ للطباعة‌ والنشر، ثمّ‌ استمر العمل،‌ وقد عافاني‌ الله‌ من‌ المرض‌ ببركة‌ هذا العمل‌، ولمّا أسرعت‌ العمل‌ في‌ رجب‌ 1389هـ. هبّت‌ رياح‌ الانتخابات‌ الجديدة‌ وصارت‌ كالعواصف‌ الهوجاء، وإن‌ كنت‌ تركت‌ العمل‌ السياسي‌ منذ مدة‌ ولكن‌ لما رأيت‌ أخطار الشيوعية‌ والاشتراكية‌ قد حلّقت‌ علی‌ أجواء باكستان‌ وشاهدت ‌جهودا ومساعي لتطبيق‌ الاشتراكية‌ فيها شمّرت‌ عن‌ ساق‌ الجد، ودخلت‌ ساحة‌ السياسة‌ وعزمت‌ علی‌ توعية‌ الشعب‌ الباكستاني‌ حتی‌ لا يخلطوا بين‌ الحق‌ والباطل،‌ والاشتراكية‌ والإسلام،‌ فنشرت‌ مقالات‌ حول‌ الاشتراكية‌ وأخطارها، واشتركت‌ في‌ الحفلات‌ وقمت‌ برحلات‌ في‌ أصقاع‌ البلاد حتی‌ أيقنت‌ أن‌ الشعب‌ قد وَعَی وعَرف‌، ولكن‌ لما ظهرت‌ نتائج‌ الانتخابات‌ علمنا أن‌ المادة‌ والقوة‌ سيطرتا علی‌ الحقائق،‌ فتعرضت‌ باكستان‌ للبلاء، ولله‌ الأمر من‌ قبل‌ ومن‌ بعد.
ثم‌ هجرت الأمور السياسية‌ بعد الانتخابات‌ واشتغلت‌ بكتابة‌ التفسير، فأكملت‌ ثلاثة‌ عشر جزأً من التفسير، كأني‌ بلغت‌ إلی‌ نصف‌ القرآن‌ الكريم،‌ وزادني‌ الله‌ همة‌ ونشاطاً فشرعت‌ في‌ تفسير بقية‌ القرآن‌ الكريم‌، وما كنت‌ أتصور في‌ ذلك‌ الحين‌ أن‌ هذا التفسير سوف يتمّ‌ في يوم من الأيام، وذلك‌ نظراً إلی‌ ضعف‌ الصحة‌ وتوالي الأمراض‌، ولكني‌ كنت‌ أفكر من‌ ناحية‌ أخری‌ أن‌ الهدف‌ ليس‌ هو إنهاء التفسير بل‌ الهدف‌ إنهاء الحياة‌ في‌ هذا العمل‌ المبارك‌، فواصلت‌ العمل‌ من‌ شهر شعبان‌ عام‌ 1390هـ. حتی‌ وصلت‌ إلی‌ سورة‌ الفرقان‌ عام‌ 1391هـ. فبقي‌ ثلث‌ القرآن‌ وخشيت‌ عدم‌ إكماله،‌ فأوصيت‌ بعض‌ السادة‌ إن‌ لم‌ أكمل‌ الباقي‌ فعليكم‌ أن‌ تلحقوا به‌ ما ألّفته‌ باسم أحكام‌ القرآن‌ إلی‌ سورة‌ “ق‌” بعد أن‌ تنقلوه‌ إلی‌ اللغة الأردية ثم‌ بدأت‌ التفسير من‌ سورة‌ “ق‌” إلی‌ آخر القرآن‌، واستمر ذلك‌ من‌ الثاني‌ عشر من‌ ربيع‌ الأول‌ عام‌ 1391هـ. إلی‌ شوال‌ عام‌ 1391هـ. ثمّ‌ أكملت‌ ما تركته‌ من‌ سورة‌ الشعراء إلی‌ الحجرات‌، وقد ساعدني‌ في‌ تفسير سورة‌ ص‌ والصافات‌ والزخرف‌ نجلي‌ العزيز وقرة‌ عيني‌ محمّد تقي‌ – سلمه‌ الله تعالی- ‌بقلمه‌ وتحت‌ إشرافي‌، فجزاه‌ الله‌ تعالی‌ خيراً، فلم ‌يبق‌ إلا جزء ونصف‌، وأنا ابتليت‌ بمرض‌ القلب‌ واشتد المرض‌ كأني‌ رأيت‌ الموت،‌ حيث نقلت إلى‌ مستشفی القلب‌، ولما خرجت‌ من‌ المستشفی‌ وجدتني‌ أتحسر علی‌ تفسير ما بقي‌ من‌ جزء ونصف، فأوصيت‌ ابني‌ العزيز بإكماله‌، فَشَفَاني‌ الله‌ بعد ثلاثة‌ أشهر وله‌ الحمد وله‌ الشكر، فبدأت‌ العمل‌ بنفسي‌ في‌ ضعف‌ وتعب‌ حتی‌ أكملت‌ الكل‌ في‌ الحادي‌ والعشرين‌ من‌ شعبان‌ سنة‌ 1392هـ. يوم‌ السبت‌؛ ومن‌ حُسن‌ الصُدْفة‌ أن‌ّ ولادتي‌ كانت‌ في‌ الحادي‌ والعشرين‌ من‌ شعبان‌ عام‌ 1314هـ. فكمل‌ سبع‌ وسبعون‌ عاماً من‌ عمري،‌ ودخلت‌ الثامن‌ والسبعين‌، وكان‌ ابتداء التفسير في‌ حالة‌ المرض‌ الشديد، وكانت‌ هذه‌ السنوات‌ الخمسة‌ التي‌ كتب‌ فيها هذا التفسير سنوات‌ ابتلاء وهموم‌ وأزمات‌ في‌ البلاد، وهذا من‌ عجائب‌ صنع‌ الله‌ سبحانه‌ وتعالى حيث وفق‌ّ المؤلف‌ في‌ الأوضاع‌ المتأزمة‌ لكتابة‌ تفسير في‌ سبعة‌ آلاف‌ صفحة، وأثبت‌ له‌:
أن‌ المقادير إذا ساعدت‌ ألحقت‌ العاجز بالقادر،
كانت‌ بضاعة هذا العبد‌ مزجاة‌ في‌ العلم‌ والعمل، ثم‌ الأمراض‌ والظروف‌ أثرت‌ في‌ ذلك‌ أيضاً، فنظراً إلی‌ قلة ‌العلم‌ والعمل‌ والأحوال‌ ما كان‌ يجترأ مثلي علی‌ تأليف‌ تفسير لكتاب‌ الله‌، ولكن‌ لما نظرت‌ من‌ ناحية‌ أخری‌ وجدت أن‌ عملي‌ ليس‌ تأليفاً جديداً وإنما سهلت‌ ويسرّت‌ جهود العلماء والسلف‌ الصالحين‌ للمعاصرين‌ الذين‌ يجهلون‌ المصطلحات‌ القديمة،‌ فأردت‌ إيضاح‌ ما قال‌ السلف‌ في‌ التفسير ليسهل‌ علی‌ الجيل‌ المعاصر فهم‌ القرآن‌ في‌ ضوء ذلك‌ لعلهم‌ يستفيدون،‌ وأرجو أن‌ يجعل‌ الله‌ ذلك‌ زاداً لآخرتي‌.
إن‌ العلماء والمحققين‌ يقدمون‌ تحقيقاتهم‌ وكمالاتهم‌، والعبد الضعيف‌ فقد أخفی‌ قلة‌ علمه‌ تحت‌ ستار جهود السلف‌ الصالحين‌ لعل‌ الله‌ يستره‌ ويتقبّل‌ عمله، إنه‌ لا يدّعي‌ كمالاً، ولكنه‌ مرتاح‌ بأنه‌ أتعب‌ نفسه‌ بتوفيق‌ الله في‌ خدمة‌ القرآن‌ الكريم،؛ ولولا توفيقه‌ لما خطوت‌ خطوة‌ واحده‌؛ وأرجو الله‌ سبحانه وتعالى‌ أن‌ يتقبّل‌ جهدي‌ ومشقتي‌ ويعفو عما قصرت ‌في‌ جنب‌ كتابه‌ الكريم‌ ويشرّف‌ عملي‌ بالقبول‌.
نه‌ بحرف‌ ساخته‌ خوشم‌ نه‌ به‌ نقش‌ بسته‌ مشوشم‌
نفسي‌ بياد تو مي‌زنم‌ چه‌ عبارت‌ و چه‌ معانيم‌
[إني‌ لا أفرح‌ بالكلمات‌ المكتوبة‌ كما لا أقلق‌ بالصور المصنوعة
يسرني‌ أني‌ أذكرك‌ فلا تعابير عندي‌ ولا معاني]
وإنما ذكرت‌ هذه‌ القصة‌ الطويلة‌ شكراً وذكری‌ وإن‌ كان‌ لا يستفيد منها عامة‌ الناس‌ ولكني‌ كتبتها ليعلموا سبب ‌جرأتي‌ وإقدامي‌ علی‌ التفسير، إني‌ كما ذكرت‌ ما كان‌ يخيل‌ إلي‌َّ أني‌ سوف‌ أقوم‌ بتفسير كتاب‌ الله‌ ولكني‌ كنت‌ أتمني‌ منذ مدة‌ أن‌ ألخّص‌ وأسهّل‌ تفسير بيان‌ القرآن‌ لحكيم‌ الأمة‌ الإمام‌ أشرف‌ علي‌ التهانوي رحمه الله تعالی، وأقدمه‌ للناس‌ ليستفيدوا منه،‌ ولا شك‌ أنه‌ تفسير شامل‌ عديم‌ النظير، جرى تأليفه‌ في‌ ضوء ما قاله‌ السلف‌ الصالحون‌، وكان‌ تحقيق‌ هذه‌ الأمنية يحتاج‌ إلی‌ فراغ‌ وجهد، فبدأته‌ قبل‌ رحلتي‌ إلی‌ باكستان‌ ولكن‌ توقف لمدة، ثم‌ حقّق‌ الله‌ سبحانه‌ هذه‌ الأمنية‌ في‌ صورة‌ تفسير معارف‌ القرآن‌، لأني‌ جعلت‌ أساس‌ هذا التفسير علی‌ تفسير بيان‌ القرآن‌ كما أذكره‌ في‌ الصفحات‌ الآتية‌.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات