اليوم :19 April 2024

مدينة “شيراز” قبل الصفوية وبعدها

مدينة “شيراز” قبل الصفوية وبعدها

مدينة شيراز

مدينة شيراز

إن مدينة "شيراز" كانت من أهم مراكز العلم والفقه والشعر في تاريخ هذه الأمة، وقد تلألأت كنجم لامع في سماء حضارتها بتخريجها العباقرة والجهابذة في كل فن وعلم، وازدهرت ازدهارا مرموقا عظيما في زمن غابر من تاريخها، ثم تمايل نجمها إلی الأفول والغياب والتخلف في العلوم الإسلامية بعد ما كانت مأوی الطلبة الوافدين من مختلف الأقطار وملجأ أصحاب العلم والعرفان والتزكية.

تقع مدينة "شيراز"  عاصمة محافظة "فارس" من حيث الموقع الجغرافي، في الجنوب الغربي من إيران، وهي بمساحة 340 كم، ثالث مدن إيران من حيث المساحة حيث تأتي مرتبتها بعد "طهران" و"مشهد"، وتنتهي من ناحية الشمال بـ "اصفهان"، ومن الجانب الشرقي محاطة بـ "يزد" و"كرمان"، ومن الجنوب تجاور محافظة "هرمزكان"، كما هي منتهية من الجهة الغربية بـ "بوشهر".  و بكثافة سكانية تزيد علی 1722331نسمة، تعد المدينة الرابعة على خريطة إيران من حيث السكان.
تفيدنا كتب البلدان والتاريخ الإسلامي أن مدينة "شيراز" هي من المدن التي نشأت وازدهرت بعد الفتح الإسلامي وفي أحضان الحضارة الإسلامية الخالدة، ثم صارت عاصمة بلاد فارس الواسعة لأجل موقعها الجغرافي والإسترتيجي، وهي لا زالت عاصمتها إلى يومنا هذا. جاء في كتاب "الروض المعطار  في خبر الأقطار" حول مدينة شيراز، هي مدينة بأرض فارس، وهي مدينتها العظمی  ودار مملكة فارس، وينزلها الولاة والعمال، وبها الديوان والمجبى، وهي مدينة إسلامية بناها "محمد بن القاسم بن أبي عقيل ابن عم الحجاج". وتفسير شيراز: جوف الأسد، سميت بذلك لأنها تجلب إليها الميرة من سائر البلاد، ولا تخرج منها الميرة البتة. ولما وصل عسكر الإسلام إلى فارس عرس العسكر بمكانها وأقام به حتى افتتحت "اصطخر" وجميع كورها، فتبرك المسلمون بذلك وبنوا "شيراز" بذلك المكان.
وهي مدينة جليلة المقدار، حسنة النواحي، طولها نحو من ثلاثة أميال، وهي متصلة البناء، لا سور لها ولا أسواق ولا عمارة، وهي قرارة الجيوش وأولی الحرب والدواوين والجبايات، وشرب أهلها من الآبار؛ انتهی  كلامه.
وذكر صاحب معجم البلدان  عنها: وهي مما استُجد عمارتها واختطاطها في الإسلام. قيل: أول من تولى عمارتها "محمد بن القاسم بن عقيل ابن عم الحجاج". وقيل: شبهت بجوف الأسد لأنه لا يُحمل منها شيء إلى جهة من الجهات ويُحمل إليها، ولذلك سميت "شيراز"، وبها جماعة من التابعين مدفونون.
فكان من الطبيعي أن تكون هذه المدينة في القرون الأولی من تاريخ الأمة الأسلامية ذروة شامخة فى العلوم الإسلامية، ومركزا لروادها، وأرضا خصبة للأفكار الإسلامية والمذاهب الإسلامية المختلفة، ولم لا!؟ فهي مدينة بناها أمير مسلم، وعرس بها العسكرالإسلامي، وهكذا كانت صفة الأراضي التي أقامت بها المسلمون  فى العصور الأولى، والذي  يلفت نظر الشخص الباحث في تاريخ هذه المدينة – وتاريخها منوطة بتاريخ الإسلام ازدهارا وانحطاطا  في بلاد فارس – حب سكانها الشديد للنبي عليه الصلاة والسلام، حيث ظهر هذا الحب في أشعارهم وكتبهم، وقد ظهر انحيازهم إلى مذهب أهل الحديث في فترة من الزمن.
لقد أكثر المؤرخون في تواريخهم وأصحاب تصانيف البلدان، ذكر "شيراز"، وتكلموا فيها من جوانب متعددة، فذكروا الملوك، وقصص الحضارات التي نشأت من "شيراز" أو جاءت إليها، وذكروا العلماء والفقهاء والمحدثين والقضاة، وقد أفرد البعض التصنيف في ذكر طبقات فقهاءها وعباقرتها وشعراءها خاصة، حيث يقف القارئ حائرا أمامها  قائلا بلسان الحال: لقد صدق النبي الصادق المصدوق لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس. وكفی لمدينة فخرا و ازدهارا وعظمة أن تكون عرين العلماء ومأوى الطلبة، ومركزا للعلوم تشد إليه الرحال من أقصی المعمورة، فأحب أن أذكر بعض عباقرة هذه البلاد، واقتطف شيئا من مآثر حياتهم لنعرف علو مكانة "شيراز"، وسمو حضارتها، ومرتبة علماءها، وأذكر بصفة خاصة القرون التي عاشوا فيها، لنكون علی علم بأن ما هي أسباب هذا التقدم العلمي في تلك القرون، وماهي أسباب انحطاطها بعد القرن العاشر الهجري، وشيراز هي شيراز لم يبدل مكانها ولم تغير تربتها؟
الشيخ ابواسحق الشيرازي :
العالم، الفقيه الأصولي المؤرخ، صاحب التبصرة في أصول الفقه، إمام عصره زهداَ وعلماَ وورعاً. تففه على جماعة منهم القاضي أبو الطيب الطاهر بن عبد الله الطبري، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله البيضاوي، وأبو حاتم القزويني وغيرهم، ودرس أكثر من ثلاثين سنة، وأفتى قريباً من خمسين سنة. مات ببغداد في جمادى الاَخرة سنة 476.
 الحسن بن عثمان أبو حسان الزيادي الشيرازي :
    وهو من كبار المحدثين، كان فاضلاَ بارعاَ ثقة. ولي قضاء الشرقية للمتوكل، وصنف تاريخاً، وكان قد سمع منه محمد بن إدريس الشافعي، وإسماعيل بن علية، ووكيع بن الجراح. روى عنه جماعة، ومات سنة 272، قاله الطبري.
 أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي:
 شيخ الزهاد ببلاد فارس وواحد الطريقة في وقته. كان من أعلم المشايخ بالعلوم الظاهرة. صحب رُوَيماَ وأبا العباس بن عطاء وطاهر المقدسي، وصار من أكابرهم. توفي بشيراز سنة 371 عن نحو مائة وأربع سنين، وخرج مع جنازته المسلمون واليهود والنصارى.
أحمد بن عبد الرحمن  الحافظ الشيرازي أبو بكر:
  من كبار الحفاظ ، روى عن أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي وأبي سهل أحمد الأسفراييني وأبي أحمد محمد الحافظ وغيرهم من مشايخ خراسان والجبل والعراق، وكان مكثراَ. روى عنه أبو طاهر بن سلمة وأبو الفضل بن غيلان وأبو بكر الزنجاني وخلق غيرهم، وكان صدوقاً ثقة حافظاً يحسن علم الحديث جيداً جداً. سكن "همذان" سنين، ثم خرج منها إلى "شيراز" سنة 404 وعاش بها سنين، ثم مات بها سنة 411، وله كتاب في ألقاب الناس، قال ذلك شيروَيه.
أحمد بن منصور الشيرازي الحافظ:
 من الرحالين المكثرين. قال الحاكم: كان زاهدا رَحالاَ في طلب الحديث، من المكثرين من السماع والجمع. ورد علينا نيسابور سنة 338 وأقام عندنا سنين. كنت أرى معه مصنفات كثيرة في الشيوخ والأبواب، رأيت به الثوري وشعبة في ذلك الوقت، وسافرإلى العراق والشام، وانصرف إلى بلده "شيراز" وصار في القبول عندهم بحيث يضرب به المثل، ومات بها في شعبان سنة 382.
إن قائمة أسماء المشاهير في "شيراز" لطويلة جدا، فقد ظهر في القرن السابع السيد قطب الدين محمد الحسني العالم العارف، وحسن بن أحمد الفارسي الأديب النحوي؛ ومن الشعراء المنتسبين إلى هذه المدينة الذين يزيد عددهم على المائة، مصلح الدين سعدي الشيرازي صاحب الكتابين المعروفين بالفارسية "بوستان" و"كلستان"، عاش في هذا القرن أيضا. نشأ منها ابوالحسن بن محمد شيرازي العالم المنجم في القرن الثامن؛ وينسب إليها من النحاة إمام أهل النحو أبو بشير عمرو بن عثمان بن قنبر البصري العروف بسيبويه الذي طلب الفقه والحديث أولا ثم طلب العربية فبرع فيها وساد أهل زمانه، وصنف فيها كتابه الكبير الذي لم يصنف أحد بعده مثله، وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة . وكذلك الحسن بن الخطير المعروف بأبوعلي الفارسيُّ العالم بفنون مختلفة من العلوم، القارئ بالعشر والشواذِّ، العالم  بالتفسير والناسخ والمنسوخ والفقه والخلاف، المتوفي  بالقاهرة سنة ثمان وتسعين وخمسمئة من كبار علماء القراءات المنسوبين إلی "شيراز".
هكذا استمرت سلسلة ظهور النوابغ والعبقريين علی أرض "شيراز" إلی أن استولت عليها الصفوية سنة 909 من الهجرية القمرية، فلم تسلم هذه المدينة من عواصف الصفويين الحالكة المدمرة التي أقلعت جذور هذه الحضارة المنيعة – بعد تأصلها منذ قرون – في بضعة أعوام، وصارت "شيراز" التي كانت منارة العلم والهدی في قرون، مرتعا للرفض والجهل والتخلف العلمي. نعم لأن أول شيء استهدفته الصفويون في مدن السنة سواء كانت "اصفهان" أو "شيراز" أو "تبريز"، هو العلم، فقتلو العلماء وأغلقوا مراكزالتعليم ليمكن لهم نشر البدع والخرافات والأساطير الباطلة.
فلم يكن أي جدوی لجهود الملوك الذين جاءوا من بعدهم، كالزنديين والأفشاريين والقاجاريين الذين أرادوا جبر جميع تلك الثغرات التي أوجدت في "شيراز" محو حضارة بكاملها وصرف الناس عن الدين الحنيف إلی البدع والخزعبلات بالمباني والقصور والجسور والأسواق المزينة المنمقة، بل سافر كثير من أهل العلم والأدب إلى بلاد نائية، فسافرالأمير معين الدين الحسيني الشيرازي الحنفي، مصنف كتاب "نواقض الروافض" إلی الخلافة العثمانية، وعرفي الشيرازي الشاعر المعروف إلی الهند؛ فسافرالعلماء وسافر مهم العلم، وسافرت أهل السنة وسافر معهم السنة، ولم يبق إلا الجهل الهالك والتقاليد السيئة والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، حيث ظهرت في القرون الأخيرة إحدی كبری الحركات المعادية للإسلام والمساندة للاستعمار الأوروبي في العصر الحاضر من هذه المدينة وهي الحركة البابية الخارجة عن الملة بسب تعاليمها الكفرية في العقائد والعبادات. وليست هذه الحركة إلا إحدى النتائج المشئومة لأعمال الصفويين الشنيعة التي نزلت علی مثل هذه المدن مثل صاعقة من السماء، فضيقت الحياة علی أهل السنة والجماعة وفرقت بين الأمة وماضيها بدعاوي كاذبة وعقائد باطلة.
إنا لله وإنا اليه راجعون .

الكاتب: أبو عبداالله البلوشي

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات