الصيام.. أوله فى النفس وآخره عند الله

الصيام.. أوله فى النفس وآخره عند الله

كنت ورفاقي الصغار نفرح برمضان لأسباب متعددة، ولكن كان أهمها بالنسبة لنا هو أن العفاريت تكون مقيدة في هذا الشهر، فكنا نرتاد كل الأماكن ليلا ونهارا بلا خوف فنحن على يقين من غياب العفاريت، وكنا نتمنى أن تكون السنة كلها رمضان لهذا السبب بالذات، حيث كانت قصص العفاريت وحكايات الشياطين تملأ عقولنا في هذا الوقت وتنغص علينا حياتنا، فإذا انتهى رمضان عادت المخاوف والمحاذير مرة أخرى تملأ عقولنا وقلوبنا الصغيرة.

وحين كبرت وتخلصت من موضوع العفاريت هذا لم أنج من شعور بالرتابة والسآمة والملل ينتابني في كل عام في الفترة التي تسبق رمضان، وأشعر أن ثمة ركامًا من الأحزان والمخاوف والقلق يملأ جنبات نفسي، فأتذكر أن رمضان قد اقترب، فهو بالنسبة لي موسم علاجي تتطهر فيه نفسي من كل ما علق بها خلال العام (وهو كثير)، وموسم بهجة لا أعرف سببها بالتحديد فقد يكون تراكم خبرات طفولية سعيدة عشتها في رمضان فارتبطت به زمانا وطقوسا وروحا.

ولهذا ولغيره تتوق نفسي إلى اقتراب رمضان وقدومه كي أستريح وتهدأ جوانحي وتتجدد حياتي. فعلى الرغم من امتلاء نهار وليالي رمضان بالتغيرات والأحداث فإننا نشعر أننا مقبلون على استراحة نفسية نتخفف فيها من أعبائنا وهمومنا وأحزاننا. وبهذا المعنى يصبح رمضان جائزة سنوية، وشيئا منتظرا وتجديدا في حياتنا يذهب عنها الرتابة والنمطية والملل.

والنفس تستشعر هذا بشكل أكثر وضوحًا حين يهل شهر رجب، ثم يزداد الشعور بالشوق أكثر حين يهل شهر شعبان، وقد يصاحب هذا الشوق نوع من القلق الذي نستشعره ونحن في انتظار حبيب فتدور في نفوسنا تساؤلات عن طبيعة القدوم وظروفه، وعن استعدادنا لذلك من عدمه، وعن قدرتنا على الاستقبال، وقدرتنا على تحمل التغيير الحادث في حياتنا بقدوم هذا الحبيب، وهذه الدرجة من القلق لا تضيع فرحة الانتظار بل توقظ الحواس للاستقبال، وتزيل بلادة الحياة الرتيبة الجامدة المتكلسة تأهبا لحركة جديدة وحياة متغيرة.

أفراح رمضان

تحرر فانطلاق

ضبط وطمأنينة

رمضان ومستويات اللغة

صيانة دورية للضمير

تعتعة جمود النفس بين الحرمان والشبع

معنى الحرام والحلال.. إعادة الدرس الكوني الأول

إعادة البرمجة

الالتئام النفسي والاجتماعي

أفراح رمضان

وتتبدى في أشياء كثيرة منها:

استطلاع الهلال: قد يبدو منطقيا أن حساب بداية رمضان بالوسائل الفلكية أكثر دقة وانضباطا، ولكنه من جانب آخر يحرمنا من أشياء أحسبها مهمة من الناحية النفسية والروحية، فانتظار رؤية الهلال بالعين المجردة مع احتمالات ظهوره أو عدم ظهوره يعطي فرصة للتطلع العام نحو السماء، وإعادة الارتباط بها بعد طول نسيان وطول انغماس في النظر إلى الأرض، كما أن لمفاجأة الرؤية بهجتها وطعمها وحلاوتها. وأتمنى أن تنتشر بين الناس عادة الصعود إلى أسطح منازلهم وإلى المرتفعات والجبال لرؤية الهلال بأنفسهم، وهو أمر متاح لكل الناس لو صدقت نيتهم وعلت همتهم، وألا يكتفوا بمعرفة بداية رمضان فلكيا أو تليفزيونيا. وربما لهذا السبب (وغيره) ما زالت بعض الدول تصر على الرؤية بالعين المجردة للهلال وتشجع مواطنيها على محاولة الرؤية وتخصص جوائز لمن يرى الهلال ويدل على وجوده.

واستطلاع الهلال وانتظاره بهذا الشوق والترقب هو تجديد للإحساس بالزمان، وتنشيط للوعي به، ولا يوجد مثل رمضان شهر يستشعر فيه الناس زمانهم بشكل واضح فيعرفون الوقت واليوم بدقة تفوق أي وقت آخر.

وهلال رمضان ليس فقط إشراقة في السماء، ولكنه إشراقة في الروح، وهو نور يشق عتمة الضمير.

فرحة تغيير روتين الحياة اليومية الذي اعتاده الناس وسئموا منه طوال العام.

 فرحة في الدنيا وأخرى في الآخرة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “للصائم فرحتان، فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه”. فثمة فرحة كبيرة عند الجلوس على الإفطار بعد طول جوع وعطش وقد التأم شمل الأسرة، وفرحة الاستبشار بجزاء الصوم والذي جعله الله مفاجأة سارة للمؤمن يوم القيامة حيث ورد في الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به” (متفق عليه)، وورد في الحديث النبوي: “إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم” (متفق عليه). ويقول وكيع في تفسير قوله تعالى: {كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية}، هي أيام الصيام.

والفرحة ليست قاصرة على المؤمن الصائم فقط، فالله سبحانه وتعالى فرح بعبده لدرجة أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وهذه درجة عالية من الحب تجعل المكروه في المحبوب جميلا فقد قال صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك” (متفق عليه).

وينقي جو الكون من شوائب الشر لتعم البهجة كل الكائنات حيث تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار وتصفد الشياطين مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين” (متفق عليه).

تحرر فانطلاق

يتميز رمضان من الناحية النفسية بتحريك الثبات المتجمد والمتكلس، وزلزلة السكون البليد الملتصق بالطين، على أمل إطلاق الروح لتمضي في طريقها إلى العالم العلوي لتقف في حضرة الإله وتعود بقبس من نوره تستعين به على ظلمات الأرض والحياة، وتستشعر في ذلك سعادة لم تتذوقها الحواس من قبل، سعادة لا يكدرها خوف أو قلق أو ألم أو خزي أو عار أو إحساس بالذنب، نوع من السعادة المطلقة التي لا تتحصل إلا في مثل هذه الظروف. ويتحقق هذا من خلال تغيير شامل في عادات الأكل والشرب والنوم واليقظة ونمط العلاقات الاجتماعية بشكل يكسر المألوف ويخرج على المعتاد.

هاهنا يتوقف العقل عند منتهاه ويواصل القلب الرحلة في سماوات اليقين والوجدانات والوجد ثم يصل إلى منتهاه ويسلم القياد للروح التي تنطلق فوق السماوات سابحة في نور لا تحده حدود، متجاوزة آفاق كل اللغات، لتتلقى الحكمة الإلهية والنور الرباني بلا وسائط أو حجاج. هذه الإشراقة هي وحدها – وليس العقل – التي تحرك الجوارح لتقوم الليل وتهجر النوم، وتستيقظ في فجر الشتاء حين تستشعر رعشة اليقين تدب في أوصال الجسد المتعب فتحييه لينهض فيستقبل نور الإيمان الذي يسبق نور الصباح. هنا تكون الشعائر عملا إيمانيا لا مجرد عادات اجتماعية أو تدريبات رياضية يسعى صاحبها إلى مكانة في أهله وناسه أو إلى راحة في بدنه.

ضبط وطمأنينة

قد تكون سيارتك جديدة وقوية وفائقة السرعة لكنك لا تطمئن إلى قيادتها إلا في وجود نظام الفرامل (الكابح) الذي يمكنك من التحكم في سرعتها وقت اللزوم، والنفس البشرية تموج بالرغبات والشهوات التي تثير المخاوف والقلق من انطلاقها أو انفلاتها، ولا تتحقق الطمأنينة النفسية إلا في وجود نظام ضبط مناسب. والشهوات تقوى بالطعام والشراب وتهدأ مع الصيام، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع”، وقال أيضا لعائشة رضي الله عنها: “داومي قرع باب الجنة، قالت بماذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: بالجوع”.

والصائم قد يندفع في الغضب أحيانا بسبب قلة نومه أو عطشه أو جوعه أو حرمانه من كوب الشاي أو فنجان القهوة أو السيجارة أو بسبب الزحام الشديد أو الحر الخانق، ولكنه سرعان ما يتذكر أو يذكره أحد فيقول “اللهم إني صائم”؛ فتصحو قوة الضبط مرة أخرى في داخله تطمئنه.

إذن فالصيام ضبط صحي لثورة الشهوات ووساوس الشيطان، والنتيجة الطبيعية له هي انخفاض حدة الصراع الداخلي بين الشهوات الثائرة وبين الضمير مما يؤدي إلى هدوء النفس وسكينتها.

رمضان ومستويات اللغة

لكم ضاعت منا ساعات وليالف طوال نحاجج أنفسنا ونحاجج بعضنا البعض بعقولنا التي أنهكتنا وأتعبتنا ويحرص كل منا على إثبات جدارته وفصاحته وقدرته على إفحام أقرانه، ونظن أننا انتصرنا حين فعلنا ذلك وأننا ألزمنا الآخرين الحجة وألزمناهم مسئولية العمل بما نرى، ولكننا نكتشف أننا أورثنا نفوسهم العداوة والبغضاء ضدنا وضد ما ننادي به من أفكار.

والآن نشعر بالجوع والعطش والتعب ونحن صائمون فتسكت ألسنتنا وتخمد عقولنا وننظر إلى بعضنا البعض محاولين استخدام لغة أخرى هي لغة القلب، وهي لغة أكثر طيبة وأكثر بساطة وسماحة، لا تحتاج نحوا أو صرفا، ولا تفرق بين غني أو فقير، وتتجاوز حدود الثقافات والأقطار، ولا تحتاج لترجمات أو ضبط مصطلحات، لغة يعرفها الجميع وفي نفس الوقت لا يستطيع أحد أن يصفها، هي كما قال أحدهم في وصفها “سر عام”.

ثم نكتشف ونحن نقوم الليل في ركن من أركان البيت، وقد أطفأنا المصابيح وأغلقنا المذياع والتلفاز والحاسوب والتليفون المحمول، نكتشف أننا انشغلنا بالناس أكثر من اللازم، وأعطيناهم أكثر مما يستحقون، بل إننا انشغلنا بهم عن الله، هنا تشق الروح عتمة الجسد لتمضي صعدا إلى عالم الخلود والطمأنينة والرضا في رحاب الله القدسية متجاوزين البشر والحياة واللغات والصراعات والعلاقات والتعلقات.

صيانة دورية للضمير

لا يعرف أحد أين يوجد الضمير في الإنسان، أهو في دماغه أم عقله أم قلبه أم روحه؟، بل لا يعرف أحد تعريفا دقيقا له غير أنه: ما تضمره في نفسك ويصعب الوقوف عليه، فهو شيء خفي أشبه برادار يلتقط الإشارات ويصنفها أهي من جانب الخير أم من جانب الشر، أي أنه استعداد نفسي لإدراك الخبيث والطيب من الأعمال والأقوال والأفكار والتفرقة بينها، واستحسان الحسن واستقباح القبيح. وعلى الرغم من خفاء الضمير واختفائه، إلا أنه قوة إدراكية عظمى في النفس البشرية، تتفحص الأقوال والأفكار والأعمال وتصل إلى جوهرها بعد تجاوز الألوان البراقة والأشكال الخادعة، وقد يحاول الإنسان في ظروف ما أن يخدع ضميره بمبررات أو إيهامات أو إيحاءات كاذبة، وقد ينجح هذا لبعض الوقت، ولكن الضمير ينهض من سقطته ويخرج من كهف عميق في النفس ليعلن الحقيقة ويمارس الوخز المستمر لصاحبه ليوقظه من غفلته ويخرجه من خداعه لنفسه أو لغيره، وهنا قد يضيق الإنسان ذرعا بالضمير، فيحاول قتله نهائيا بالتمادي في الخداع والتقلب في الملذات والولوغ في الموبقات، وقد يموت الضمير فعلا، ولكن يموت معه القلب وتضيع معه بوصلة الاهتداء فيجري الإنسان بلا وعي أو هدى خلف كل ناعق. وربما يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قصد الإشارة إلى تلك القدرة الفطرية في داخل النفس والتي تستطيع بشكل غامض التفرقة بين الخير والشر حين تتضارب الفتاوى والأقوال، فقال صلى الله عليه وسلم: “استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك”، ذلك الميزان الخفي العفي القابع في أعماق النفس يوقظها ويوخزها ويهديها وسط الخطوط المتقاطعة والمتشابكة.

ولكن هذا الضمير قد تتداعى عليه الأدران وتتكالب عليه المبررات فتشوش عليه أو تحاول طمسه، ولك يحتفظ بتوهجه وقدرته على العمل فلا بد له من صيانة دورية، والصلاة صيانة يومية للضمير (أرأيتم لو أن بباب أحدكم نهرا يغتسل فيه خمس مرات في اليوم والليلة، أيبقى من درنه شيء؟ قالوا لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلكم الصلوات الخمس)، والصيام صيانة سنوية (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، والحج صيانة عمرية (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه). ولكل دورة صيانة مزاياها، فالصلاة صيانة متكررة وسريعة، والصيام دورة طويلة ومكثفة، والحج دورة شديدة العمق والتأثير والتغيير. ونطق الشهادتين نؤديه أمام الناس، والصلاة والحج نؤديهما مع الناس، والزكاة نؤديها للناس، والدعوة إلى الله نؤديها في الناس، أما الصيام فإنه العبادة المتفردة التي نؤديها أمام الله ومع الله ولله وفي الله، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به”.

وطهارة الضمير هدف أساسي للصيام كما يتضح من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، فالتقوى هنا هي عودة البوصلة الداخلية إلى طريق الحق وتخلصها من وسائل التشويش والتشويه والتضليل، وإذا لم يتحقق هذا الأمر فإن الصائم لا يجني من صيامه إلا إجهاد الجوع وعذابات العطش كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش”.

تعتعة جمود النفس

في بعض الأمراض المزمنة قد يكتسب الجسد مناعة ضد تأثير العلاج الدوائي، وهنا إما أن نغير الدواء نفسه أو أن نوقفه بعض الوقت ثم نعاود إعطاءه، أو أن نعطيه بشكل زجزاجي (متقطع أو صاعد هابط)، كل هذا في محاولة لإيقاظ وتنشيط مستقبلات الدواء. والنفس البشرية قد تصل إلى هذه الحالة من البلادة بسبب الألفة والنمطية واستمرارية الأشياء، وهنا يحتاج الأمر إلى تعتعة (تعبير التعتعة، وتعبير العلاج الزجزاجي يعود الفضل في استخدامهما إلى أستاذي الفاضل العزيز د.يحيى الرخاوي)، لتحريك جمود النفس وتكلسها ومواتها، وهذا يتم من خلال ذلك التغيير الشامل في نظام الطعام والشراب وتناوبهما مع الجوع، وأيضا في تغيير مواعيد النوم واليقظة، وتغيير طقوس اليوم والليلة، والطقوس الاجتماعية والعبادية.

ولكن يبقى التناوب بين الجوع والشبع وبين العطش والارتواء تناوبا بيولوجيا مؤثرا في كل الوظائف العقلية والقلبية والروحية. فألفة الطعام تميت الإحساس بقيمته وألفة الشراب تميت الإحساس بطعمه وأهميته، وألفة الجنس تذهب بحلاوته، لذلك فإن قطع هذه الألفة بالحرمان يوقظ الحواس مرة أخرى ويبرز قيمة الأشياء.

كما أن حالة الشبع من الطعام والشراب والجنس مع استمرارها وألفتها قد تشكل سحابة تحجب ومضات العقل ونبضات القلب وإشراقات الروح، ولا تصبح هذه الأشياء متاحة على شاشة الوعي إلا بالإخفاء المتناوب لحالات الشبع والتخمة على مستوى الجسد. فشيء من الحرمان الحسي يتبعه عطاء رغيد يمثله الإفطار عند أذان المغرب كنموذج مصغر لعطاء لا نهائي نعجز عن تخيله نناله يوم القيامة (للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه)، وبين هذا وذاك يستشعر الصائم ومضة سماوية في قلبه وروحه تصل إلى قمتها في ليلة القدر حين تتناغم موجته مع موجات السماء فيظهر ذلك دمعة في العين وخشوعًا في القلب ورعشة في الجوارح وانتعاشا في البدن، تلك ولادة جديدة، وصفحة بيضاء ممدودة لتلقي الأعمال في عام جديد.

وكما يقول الحكماء فإن “كل ما يضعف به جسدك تقوى به روحك”، فثمة علاقة عكسية بين تخمة الجسد وصحوة الروح، فتخمة الجسد تستدعي فوران الشهوات وضمور الهمة والروح، ولهذا قال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا}.

وقد عدد عالم النفس الشهير ماسلو احتياجات الإنسان في صورة هرم قاعدته الاحتياجات البيولوجية (الطعام والشراب والمأوى والجنس) يعلوها الاحتياج للأمن، يعلوه الاحتياج للحب، يعلوه الاحتياج للتقدير الاجتماعي، يعلوه الاحتياج لتحقيق الذات، ولو أنفق الإنسان عمره وأعمارا فوق عمره لم يصل إلى إشباع كل هذه الاحتياجات المتعطشة والملحة والطامعة، وفي ذات الوقت فإن حالة من القناعة والرضا قادرة على ملء جنبات النفس بالسعادة، وهذا هو حال الزهاد في الدنيا الذين سعوا إلى الله فملأ حبه كل جنبات حياتهم فلم يبق فيها احتياجا ملحا أو طمعا مذلا، فكان تطلعهم إلى الله وطموحهم إليه سببا في استعلائهم واستغنائهم وتساميهم عما يقتتل عليه الناس من حطام الدنيا وتوافهها وزوائلها.

والصيام يؤكد أن أي شيء (عدا الله) يمكن الاستغناء عنه، وأن تعلقاننا بالطعام والشراب والجنس ليست تعلقات مصيرية، بل هي مجرد وسائل لغايات أعلى وأعمق. وكثير من الناس يردد: لا أستطيع التوقف عن السجائر، لا أطيق الصبر على الشراب، لا أملك نفسي أمام امرأة جميلة، ويشكل حياته بناء على هذه الحتميات، ويصنفها فيما لا طاقة له به، ويبرر لنفسه الانغماس والتورط بناء على فرضية عدم القدرة أو ضعف الاستطاعة، فيأتي الصيام ليؤكد له تهافت هذه الفرضيات ويؤكد له إمكانات الاستغناء والاستعلاء والسيطرة، فقط بشرط واحد حين تطمح النفس نحو الله فترى كل ما على الأرض وقد تضاءل. وقديما قال الشاعر:

والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا تفردّف إلى قليل تقنع

معنى الحرام والحلال

معنى الحرام والحلال.. إعادة الدرس الكوني الأول:

لو كان الحلال والحرام يتحدد بعقل الإنسان ومنطقه وهواه، لما كان للتوقف عن الطعام والشراب والجماع في نهار رمضان معنى، إذ قد يرى العقل في استمرار هذه الأشياء إعطاء قدرة للإنسان على العمل والسعي وحتى على العبادة، أو قد يرى أنه لا معنى لتحريم الطيبات من الرزق في أوقات وحلها في أوقات أخرى. وهذه إشكالية وقع فيها أبونا آدم عليه السلام حين أبيحت له الجنة بكل ما فيها من نعيم، وحرمت عليه شجرة واحدة، فتحركت نفسه فضولا ورغبة إلى الشجرة المحرمة ونسي العهد حين تأججت هذه المشاعر والتعلقات فاشتاق قلبه ونظرت عينه وامتدت يده، وفى لحظة التمني بالأكل والشبع والخلود والملك الذي لا يبلى يكتشف آدم أنه خسر كل شيء حتى ما كان يستر سوأته، واكتشف أن الشجرة ليست محرمة في ذاتها، ولكنها محرمة بأمر خالقها وخالقه، وتعرف آدم وقتها على هذا الجسر الشفاف الذي يفصل بين الحرام والحلال، وما زلنا في حاجة إلى أن نعي هذا الدرس الكوني الأول الذي تلقاه أبونا آدم نيابة عنا.

ولم يترك الله آدم يضيع ضحية نسيان أو خطأ فأكمل له الدرس بتعليمه كلمات التوبة كوسيلة للتطهر من ذنوب تطرأ نتيجة الطبيعة البشرية القابلة للفجور والتقوى. والصيام هو من أقوى العبادات التي توقظ الوعي بهذا الجسر الشفاف بين الحلال والحرام، فالطعام والشراب أمامك الآن، وهما من الطيبات في العادة، وزوجتك الحلال بجوارك الآن وهي لك بحكم الشرع، ولكنك في ذات اللحظة تبصر هذا الحاجز الخفي القوي يحول بينك وبين هذه الأشياء، وتدرك معنى الحرمة والحل وظروفهما فتستدعي في وعيك الدرس الكوني الأول الذي تنساه دائما تحت وطأة الحياة وبريقها، والنفس وأطماعها، ووساوس الشيطان تغريك بهذا وذاك.

إعادة البرمجة

يتعرض الجهاز النفسي لاختراق الكثير من الفيروسات لبرامجه الأساسية والفرعية، وقد ينجح جهاز المناعة المضاد للفيروسات في تنقيته من بعضها، ولكن البعض الآخر يواصل تمكنه وتغلغله، وهنا تحدث تشويشات برمجية، بل قد توجه تلك الفيروسات نشاطات الجهاز النفسي لخدمة نموها ولتحقيق أهدافها فيصبح الإنسان مسخرًا بكل طاقاته لخدمة عدوه ولتدمير ذاته.

ولهذا يحتاج الجهاز النفسي لنظام متجدد ونشط لمقاومة تسلل الفيروسات إليه، وربما لهذا (ولغيره)  شرعت العبادات بمستوياتها المختلفة، فالصلاة تطهير ونظافة خمس مرات في اليوم والليلة، وقد يضاف إليها برامج تطهير إضافية ممثلة في صلاة النوافل، وهي تمثل خطا دفاعيا ثانيا يلتقط ما أفلت من الفيروسات لقصور في بعض الفرائض. والصيام تطهير سنوي للفيروسات المزمنة التي اختبأت في ثنايا الجهاز النفسي واستعصت على البرامج الأخرى، والزكاة برنامج خاص يطهر النفس من فيروسات البخل والشح والطمع والرغبة في التملك بلا حدود، والحج برنامج شامل يمسح البرامج التالفة كلها ويهيئ النفس لتلقي برنامج جديد تماما.

والتطهير وإعادة البرمجة يمران عبر طريق من الحرمان والسهر والصلوات وقراءة القرآن وقيام الليل والصدقات والدعوات، وذلك يستمر فترة طويلة نسبيا يعطى القدرة على التغيير الحقيقي للجهاز النفسي، وحين تصل الطهارة إلى غايتها ويتم تصحيح أخطاء البرمجة تصبح النفس قادرة على التواصل مع خط السماء، وتصبح مهيأة في العشر الأواخر لبلوغ ليلة القدر، أي لالتقاط التردد الموجي للسماء بشكل صاف وواضح.

الالتئام النفسي والاجتماعي

تحدث بسبب تضارب الاحتياجات والمصالح والرغبات حالات شتى من التمزق النفسي والاجتماعي، وتأتي الفرصة في رمضان مع كل ما ذكرناه من تغيرات في داخل النفس وخارجها لكي يحدث الالتئام النفسي وتداوي الجروح وتجبر الكسور. كما أن طقوس رمضان في الاجتماع على الإفطار والسحور، والسمر “معًا” والصلاة “معًا” والصيام “معا”، كل هذا يساعد على التأم الكثير من العلاقات الاجتماعية التي تمزقت، فمن كانت بينه وبين أحد خصومة سيجد الفرصة مهيأة لديه ولدى الآخر لرأب الصدع ولم الشمل.

نعم الآن أستطيع:

كثيرا ما يقول الإنسان: لا أقدر.. لا أستطيع.. فالجائع يدّعي أنه لا يصبر على الجوع، والعطشان يقول بأنه لا يصبر على العطش، والمدخن يؤكد عدم قدرته على التوقف عن التدخين.. ثم يفاجأ الجميع في رمضان ومع الصيام أنهم قادرون على كل هذا، وهذا يكشف تهافت دعاوى العجز والخور والهزيمة، ويؤكد إمكانية الفعل واقتحام العقبات. ليس هذا فقط بل يشاء الله سبحانه وتعالى أن تحدث انتصارات عسكرية تاريخية للمسلمين وهم صائمون ليكون هذا دليلا على أن الإنسان لديه طاقات هائلة تتفجر بداخله حتى وهو في حالة الجوع والعطش والحرمان، وهنا تتلاشى (أو يجب أن تتلاشى) كلمات مثل “لا أعرف.. لا أستطيع… لا أقدر”.

الكاتب :  د.محمد المهدي

منقول من موقع اسلام اون لاين

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مزيد من المقالات