- سني أون لاین - https://sunnionline.us/arabic -

العلامة الشيخ عبد العزيز ملازاده رحمه الله

الولادة: ولد الشيخ عبد العزيز رحمه الله تعالى سنة 1336 هـ.ق، الموافق 1916 م. في قرية “دبكور” من توابع “سرباز” الواقعة جنوب شرقي بلوشستان.
اشتهرت في أسرة الشيخ وكثر النقل أن والدة الشيخ رأت في المنام وهي حاملة أن رجلا أعطاه سجادتين وعصتين، يقول لها إحدى السجادتين لعبد العزيز والأخرى لعبد الله والد الشيخ، وإحدى العصتين لعبد العزيز والأخرى لوالده. الوالدة تبحث عن تأويل الرؤيا، ويخبرها العلماء بأن الله سوف يقر عينيك بولد يكون له شأن يتغير به مجرى تاريخ بلوشستان. الوالدة تضع حملها، فإذا بطفل جميل على وجهه ملامح النور والصلاح وآثار الخير والبركة يقر عيون الوالدين والأسرة جميعا.

والد الشيخ عبد العزيز، المجاهد الكبير الشيخ عبد الله السربازي:
هو عبد الله بن محمد بن فقير محمد مسعود. ولد في قرية “حيط” من توابع “سرباز” الواقعة في الجنوب الشرقي من بلوشستان. تلقى العلوم الإبتدائية في قريته، ثم سافر إلى إقليم “سند” في باكستان، وتلمذ لدى العلماء الكبار في ذلك الزمن كالشيخ محمد صادق والشيخ محمد صديق والشيخ المجاهد عبيد الله السندي وعلماء آخرين.
أنهى الشيخ عبد الله دراسته في “سند” ورجع إلى بلاده في بلوشستان بنشاط وحيوية خاصة مع زاد وافر من العلم والتقوى والإيمان والتوحيد والعقيدة الصحيحة السالمة.
ما إن وصل الشيخ إلى بلاده حتى ابتدأت الدعوة الدينية والحركة الإصلاحية والإصلاح الديني في بلوشستان النائية من العلم والثقافة، الغريقة في البدع والخرافات والشرك والجهالات.

الشيخ عبد الله السربازي يضع حجر الأساس للإصلاح الديني في بلوشستان:
الشيخ عبد الله نظرا إلى قوته العلمية وشجاعته النادرة وبسالته في بيان الحق والحقيقة وتبحره في الفقه والتفسير، أنشأ في بلوشستان حركة دينية غيرت مجرى حياة كثير من الناس، وقام بجولات وأسفار كثيرة بين القرى والأرياف يدعو الناس إلى الله ودين الحق ويفصل بينهم قضاياهم ودعاويهم.
ومن بطولاته التاريخية والمهمة التي تعد من مآثره العظيمة، هي قيامه أمام الفرقة الضالة الكافرة (الذكرية) وقتاله بالسيف، وطردهم من بلوشستان ونجاحه في هذا الكفاح.
فقد قتل من الفرقة الضالة الذكرية عدد كبير وهرب آخرون إلى البلاد المجاورة، وطهرت أرض بلوشستان من إلحادهم وشركهم بالله عزوجل. ومرارا أرادت الحكومة البهلوية بمؤامرات ودسائس رؤوس تلك الفرقة إلقاء القبض على الشيخ عبد الله وإيداعه السجن، لكن فشلت هذه المؤامرة ولم تستطع الحكومة أن تصيب الشيخ رحمه الله بسوء، نظرا إلى نفوذ الشيخ العميق بين الأسرة الحاكمة وكبار الطوائف في بلوشستان.
كان الشيخ رحمه الله في طريقه إلى الحق يواصل كفاحه وجهاده، ينفذ الشريعة ويقيم الحدود ويقتص من القاتل ويرجم الزاني دون أن يبالي بالحكومة وأعوانها، إلى أن لبى نداء ربه، والتحق بالرفيق الأعلى.

والدة الشيخ عبد العزيز رحمه الله:
كانت أم الشيخ عبد العزيز من النساء الصالحات العابدات ذات أثر هام في تربية الشيخ وتعليمه، وكانت لها مكانة خاصة بين النساء، وكانت تتمتع بصفات وميزات لا تمتلكها سائر النساء، وكانت ملقبة بأم المساكين لسخائها ومساعدتها الفقراء والعوائل المحتاجة، وكانت لديها خبرة في الطب، الأمر الذي جعلها تواظب وتراعي على سلامة ولدها الصغير كثيرا ويكفيها فخرا وسعادة حيث أنجبت ولدا غيّر الله به مجرى تاريخ بلوشستان.

المرحلة الابتدائية من الدراسة:
كانت آثار النبوغ والشوق إلى العلم والحب الشديد إلى فهم القرآن الكريم وتعلمه في وجود هذا الطفل الصغير، تحكي عن استعداده القوي ومستقبله الزاهر، فتعلم القرآن والكتب الابتدائية الرائجة في ذلك الزمن عند والده الكريم.
نظرا إلى أن والده كان القاضي الوحيد في المنطقة يقوم بالقضاء وحل المسائل والخلافات الواقعة بين الناس، وكان يصحب معه ولده الصغير في حلقات القضاء، أثرت هذه المصاحبة ومشاهدة قضاء الوالد في وجود الطفل الصغير كثيرا، حتى أوصاه والده أن يحفظ متنا مختصرا في الفقه ليكون حافظا ومسلطا على كليات المسائل، فحفظ الشيخ رحمه الله بأمر من والده الكريم كتاب “كنزالدقائق” المتن المختصر الدقيق في الفقه الحنفي.

المرحلة العالية:
كان الشيخ رحمه الله تعالى كلما يزداد علما ومعرفة، يزداد شوقا وحرصا على طلب العلم والخوض في بحار العلوم والمعارف، ومن سوء الحظ كانت بلوشستان منطقة محرومة جدبة في العلم، بعيدة عن المراكز العلمية والعلماء، فكان الشيخ رحمه الله كسائر عشاق العلم من كبار السلف مجبورا أن يتحمل مشاق السفر والرحلة في طلب العلم، فسافر إلى باكستان والتحق بمدرسة “مظهر العلوم” في مدينة “كراتشي”، وبعد سنة من الجهد والاستفادة من حلقات كبار الأساتذة في باكستان لم يستطع الشيخ رحمه الله أن يصبر على عطشه الشديد ولم يرحل لطلب العلم في آفاق آخرى وبساتين جديدة، فارتحل إلى الهند والتحق بمدرسة “فتح بوري” وأقام سنتين هناك، ثم التحق إلى درالعلوم “ديوبند” المركز العلمي الكبير، وبعد ستة أشهر التحق بمدرسة “أمينية” في دهلي، وأنهى الدروس المتداولة في ذلك الزمن.
الرحلة إلى الهند فتحت آفاقا جديدة في حياة الشيخ رحمه الله، لأن الهند كانت تتمتع من وجود كبار العلماء الذين كان لهم أثر هام في النشاطات العلمية والسياسية والاجتماعية.

أساتذة الشيخ رحمه الله:
بما أن الشيخ عبد العزيز رحمه الله كان يتمتع بذكاء بالغ وكفائة عالية في طلب العلم وفهم الكتب وتلقي المسائل، كان لأكثر الأساتذة اهتمام كبير وصلة خاصة بهذا التلميذ الورع الذكي. من هؤلاء الشيوخ والأساتذة كان الشيخ الكبير والمفتي العام بالديار الهندية ومؤسس ورئيس مدرسة “أمينية” المفتي كفايت الله، الذي كان له دور أساسي في الكفاح الديني والجهاد ضد الاستعمار البريطاني، الذي كانت جهوده ومساعيه الجبارة ضد الاحتلال البريطاني وقدرته في الفتوى والعلوم الشرعية والفقه الباطن والتزكية واضحة ومشهورة في القارة الهندية. كان لهذا الشيخ الكبير والأستاذ الشفيق صلة خاصة وعناية بالغة بالشيخ عبد العزيز رحمه الله تعالى وربما كان يلقبه بمفتي بلوشستان ويعطف عليه.
كذلك كان للشيخ رحمه الله علاقات خاصة وقريبة مع كبارالعلماء في دارالعلوم ديوبند، كالمجاهد الكبير الشيخ حسين أحمد المدني، وشيخ الفقه والأدب مولانا إعزاز على، ومولانا عبد السميع، ومولانا إبراهيم البلياوي، ومولانا سجاد حسين وآخرين من الكبار.

الرجوع إلى الوطن:
في سنة 1367 هـ ق. رجع الشيخ رحمه الله من الهند إلى بلوشستان بعد أن حصل على ذخائر من العلم والمعرفة والتقوى واليقين والابتعاد من زخارف الدنيا ومظاهرها، وكان من الممكن للشيخ أن يحتل كرسيا علميا ومكانة مرموقة ومقاما عاليا في إحدى المراكز العلمية المتقدمة في الهند ويحصل على جاه ومنصب كبير، لكنه لم يخطر يوما على باله أنه تعلم العلم للحصول على المناصب المادية وزخارف الحياة الدنيا، وكان على نية خالصة وإرادة قوية أن يرجع إلى قومه ووطنه البعيد عن العلم والمعرفة، الغريق في الخرافات والبدعات والجهالة، والمحروم عن الثقافة والحضارة. كان الشيخ رحمه الله تعالى جل سعيه أن يخدم الأمة المسكينة في بلوشستان وينتشر الدين والعقيدة الصحيحة بين جماهير الناس الذين طالما ابتعدوا عن روح الدين ولم يتذوقوا لذة العلم والفهم الصحيح والحياة الطبية على منهج الكتاب والسنة.
لما رجع الشيخ إلى بلوشستان لم يمكث إلا أن بدأ بالدعوة والإرشاد وتوجيه الناس نحو الحق والحقيقة، وكان يصاحب أباه في حل الخلافات القومية والمنازعات القبلية، وسرعان أن علت كلمة الشيخ وارتفع صوته بالدعوة مع مساعدة أبيه المجاهد الكبير مولانا عبد الله رحمه الله تعالى.

السفر إلى مكة المكرمة:
بعد أن رجع من الهند، قضى سنتين في بلوشستان وكان يشتاق دائما أن يزور الحرمين الشريفين. في سنة 1369 من الهجرة تحققت هذه الأمنية المباركة فسافر الشيخ إلى الحرمين الشريفين وأدى فريضة الحج.
كان ولع الشيخ الشديد وحبه المفرط إلى الحرمين الشريفين يمنعه من مفارقة هذه الديار المقدسة، ومن جانب طموحه العلمي وذوقه الشديد إلى العلم والمعرفة وحبه العميق للحصول على العلوم المختلفة والاستفادة من حلقات العلماء وفيوضهم، لم يمكن له أن يترك الحجاز دون أخذ وتزويد، فاستشار مع الشيخ سليم مدير مدرسة “الصولتية” في مكة المكرمة ليشتغل بالدراسة ويتعلم عندهم. لما تعرف الشيخ سليم عليه وتحدث معه وطال الكلام بينهما، أدرك الشيخ سليم بفراسته أن الطالب الذي يتكلم معه ويطلب منه أن يلتحق بهذه المدرسة كتلميذ هو عالم كبير وأستاذ بارع وشخصية عظيمة، شأنه أعلى وأجل من أن يجلس في صف التلاميذ، بل لابد من أن يستفاد منه كأستاذ ومربّ، يلقى الدروس على الطلبة ويشتغل بتوجيه التلاميذ وتربيتهم.
يطلب الشيخ سليم من الشيخ عبد العزيز أن يقيم في مدرسة “صولتية” كمدرس وأستاذ ولم يرد الشيخ عبد العزيز هذا الطلب، ولكن أكد أن تكون الكتب التي يدرسها من الصفوف الابتدائية، وكان غرض الشيخ أن تكون بداية تدريسه من الكتب الابتدائية ثم يتدرج إلى المتون الغامضة شيئا فشيئا. ما مضت إلا مدة قصيرة حتى أدرك المشرفون أن الشيخ عبد العزيز يتمتع بقوة علمية عالية وتفهيم قوي، واستعداد كبير فطلبوا منه أن يقوم بتدريس كتب أخرى في الصفوف العالية. وفي سنة واحدة نظرا إلى حسن تدريبه وتفهيمه وقدرته في إدارة الصفوف وتأثيره على خلق الطلبة وتربيتهم، زادوا في راتبه ثلاث مرات.
الشيخ عبد العزيز رحمه الله رغم أنه كان أستاذا في هذه المدرسة في مكة المكرمة، لم يكن يتخلى من طلب العلم ويشتغل بأمور نفسه من المكانة العلمية والمنصب المرموق الذي ناله عند العلماء في مدرسة “صولتية”، بل كان يحاول ويبحث عن العلماء في الفنون المختلفة ويستفيد من حلقاتهم، فتعلم التجويد والقراءة من الأساتذة البارعين في هذا الفن، وحصل على تجارب وعلوم كثيرة في هذه المدة.
حقيقة أخرى أن الشيخ عبد العزيز رحمه الله كما نرى من مطالعة حياته (وقد شاهدنا بأم عيننا) كان شديد الحب والولع وشديد العشق والهيام إلى الحرمين الشريفين، ولم يكن يفضل الحياة في أي مكان من الدنيا من الحرمين الشريفين، وهو الآن قد حصل على هذه الأمنية الكريمة وهو يعيش كأستاذ في مدرسة واقعة بجوار الكعبة المباركة، فكيف يمكن أن يفارق هذا البلد ويترك هذه الفرصة الطيبة التي طالما كان ينتظرها ويبحث عنها!

الرجوع إلى بلوشستان:
لكن القدر المحتوم من جانب الله عز وجل يسبق كل شيء، ويغلب أي إرادة وعزم، وقد أراد الله عز وجل بأهل السنة في إيران لا سيما بلوشستان خيرا أكبر، وأراد أن يفتح لهم باب الهداية نافذة النور وبداية طريق الإصلاح الديني والتجديد الإيماني بيد الشيخ عبد العزيز رحمه الله تعالى، فألقى في قلب والده الكبير الشيخ عبد الله أن يرسل رسالة إلى ولده المقيم إلى جوار بيت الله الحرام ويلح عليه أن يترك كل ما فيه من نعمة التدريس ومجاورة الكعبة الحسناء ويسرع إلى قومه وأهل بلده في بلوشستان البعيدة عن الثقافة والعلم، ويبدأ العمل الدعوي والتربية الدينية فيهم.
كأن الشيخ عبد الله أدرك أن أهل السنة في إيران لا سيما في بلوشستان بحاجة شديدة إلى من ينفخ فيهم روح الدين وينشر تعاليم الرسول الكريم من جديد، ويحيي ما أميتت من السنن والواجبات، ويزيل ما أدرجت في حياتهم من البدع والخرافات والتقاليد غير الشرعية والرسوم القومية.
لما وصلت الرسالة إلى الشيخ عبد العزيز ووقف على ما فيها، وكان يعرف أن رضى الرب في رضى الوالدين وسخط الرب في سخط الوالد، فاستشار الشيخ سليم، رئيس المدرسة وسائر المشرفين. تحير الشيخ سليم والشيوخ الآخرون بما كانوا يعرفون من مكانة الشيخ عبد العزيز وأثره بين التلاميذ وحسن تدريسه وتفهيمه وخلقه، فألحوا عليه أن يرضي والده ولا يتركهم. أما الشيخ عبد العزيز رحمه الله آثر طلب والده واعتذر عن الشيوخ في “المدرسة الصولتية” قاصدا أهل السنة وقومه في بلوشستان، فرجع إلى وطنه عن طريق الكويت. لما وصل الشيخ إلى الكويت هناك في اجتماع من الناس بعد أن ألحوا عليه أن يلقي خطابة وينصحهم، يبدأ بالكلام ويلقي الله في روعه كلمات تؤثرعلى الناس وتثير إعجابهم، وكان دأب الشيخ أنه كلما كان حديث العهد بالحرمين، كان أليم القلب، جريح الصدر، باكي العين، غير مالك على نفسه من البكاء. فتأثر الناس من كلمة الشيخ وطلبوا منه مصرين وجادين أن يقيم عندهم في الكويت، لكن الشيخ أجاب: “لو كنت أريد الإقامة في بلد غير بلدي لكنت أفضل الحرمين عن أي بلد، لكني مسافر إلى بلوشستان لطلب من والدي الكريم”.

شروع الدعوة والإرشاد:
تبين أن عودة الشيخ عبد العزيز إلى بلوشستان بدعوة من والده الكريم لم يكن لأمر غير الدعوة ونشر الدين والكفاح المتواصل لاستئصال جذور الشرك والبدع والتقاليد غير الشرعية، فبدأ الشيخ رحمه الله قبل كل شيء دعوته في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان الأحكام الإسلامية والقيم الخلقية، واستخدم مواهبه العلمية والخلقية من قدرة البيان وطلاقة اللهجة وتأثير الكلام، واستفاد من جميع الفرص والحلقات المتاحة ومجالس الفرح والسرور والمآتم والتعازي. فسافر إلى الأرياف وشارك في المحافل ولم يترك فرصة إلا وبلّغ كتاب الله وسنة رسول الله والشريعة المحمدية عليه أفضل الصلوات والتسليمات، واستطاع أن يحدث تغييرات ويوجد اتجاهات نحو العمل الصالح والأحكام الإسلامية والقيم الدينية.

تأسيس المدرسة العزيزية في “سرباز”:
خلال هذه المدة كان الشيخ عبد العزيز رحمه الله مشغولا بأمر الدعوة والإرشاد، وكان يقوم بحل المشاكل القومية والنقاشات القبلية وتعليم الناس الأحكام والسنن بالأسلوب المروج القديم.
ثم أدرك الشيخ أن العمل الجاد والإصلاح في إطار واسع والتربية العميقة تحتاج إلى إيجاد مركز علمي وتربية جيل مثقف ومن أهل العلم و الدعوة، وكان والد الشيخ قبل ذلك بنى غرفات للطلبة في قرية “حيط”. ولما سافر إلى قرية “دبكور” انتقل الطلاب هناك وكانوا يرافقون الشيخ عبد الله في أسفاره ورحلاته الدعوية ويتعلمون منه. ولكن الشيخ عبد العزيز أراد أن يكون العمل على أساس دقيق مبرمج، ويؤسس مدرسة ذات إمكانيات تحتوي على ما يحتاج إليه الطالب من السكن والكتاب والطعام.
تكلم الشيخ مع أبيه في أمر المدرسة وسرعان ما أجاب إليه الشيخ عبد الله ووافق أهل الناس وأهل الخير، فبنوا مدرسة وسموها “المدرسة العزيزية”، واجتمع الطلاب وبدأت الحركة العلمية رحلتها في بلوشستان بيد الشيخ عبد العزيز رحمه الله من قرية “دبكور”، وكانت حركة مباركة وعملا ميمونا. في بداية الأمر كان التدريس ومسؤولية المدرسة بيد الشيخ عبد العزيز، ثم بعد مدة التحق به الشيخ “عبد الله سلامي” ثم الشيخ “تاج محمد” وأساتذة آخرون.
كانت قرية “دبكور” بفضل نشاطات هذه المدرسة واجتماع الأساتذة والطلاب، تقضي أسعد أيامها وتاريخها. هذه المدرسة كانت تمارس نشاطاتها حتى سافر الشيخ عبد العزيز إلى زاهدان. وبعد سنة من رحلة الشيخ إلى زاهدان، انتقلت هذه المدرسة بموافقة من أهل “دبكور” ومشورة العلماء – منهم الشيخ “عبد الستار بزركزاده” – بيد الشيخ “تاج محمد” والحاج “غلام محمد” إلى قرية “أنزا”، وحتى الآن تواصل هذه المدرسة جهودها ونشاطاتها العلمية تحت إشراف الشيخ “عبد الأحد”، ويتخرج كل سنة عشرات من الطلاب والحفاظ للقرآن الكريم، وتؤتي هذه الدوحة المباركة أكلها كل حين بإذن ربها.

المصالحة مع الفرقة الذكرية:
إن الاشتباكات بين الشيخ عبد الله، والد العلامة عبد العزيز رحمه الله مع الفرقة الذكرية التي أدت إلى مقتل سبعة منهم بينهم رئيسهم المسمى بـ”شي كلابي”، خلّف اختلافا بين عوائل الفرقة الذكرية والشيخ عبد الله رحمه الله وأنصاره، وكان من المحتمل أن تقوم الدولة بإجراءات ضد فضيلته. لما عاد الشيخ عبد العزيز رحمه الله من السفر، تحدث مع والده في حل هذه القضية ورضي والده بحل القضية بطريقة ما. وتكلم فضيلته مع ابن “شي كلابي” رئيس الطائفة الذكرية التي لم يصل إلى نتيجة من مساعيه وشكاويه لدى الحكومة، ووافق على المصالحة إذا أديت الدية وقيمة ممتلكات والده، ووافق على ترك الشكوى ضد الشيخ عبد الله والد العلامة عبد العزيز رحمه الله. ودفع الشيخ أربعة آلاف تومان الذي كان مبلغا كبيرا في ذلك الوقت وهكذا انتهت الحرب مع الطائفة الذكرية بدراية الشيخ وتدبيره، رغم أنه كان في مقتبل الشباب. جدير بالذكر أن الطائفة الذكرية في بلوشستان تدعي نبيا خاصا وكتابا آخر إسمه “برهان” وتعتبر الصلاة والزكاة والصوم وسائر الأحكام الشرعية منسوخة في دينهم، ولهم طقوس وتعاليم خاصة، وسبب تسميتهم بالذكرية أنهم يقبلون من التعاليم الشرعية الدينية الذكر الإلهي لكن بطريقتهم.

الهجرة إلى زاهدان:
نظرة إلى التاريخ الثقافي والمدني لمدينة زاهدان في عقد 1370 من الهجرة:
تغير اسم مدينة زاهدان سنة 1348 الهجرية من “دزداب” إلى “زاهدان”.
كانت تتمتع مدينة زاهدان بميزات خاصة بسبب وقوعها على مقربة الحدود الأفغانية الباكستانية، وتأسيس السكة الحديدية التي تربط مدينة “زاهدان” بـ “كويتا”، لكنها لم تزل فقيرة في المجال الثقافي والديني. كانت المدارس الحكومية قليلة، ومعظم سكان هذه المدينة أميون وأجانب بالنسبة إلى المسائل الثقافية والاجتماعية، وعدد المساجد في المدينة لا يبلغ أصابع اليد. لم يكن حضور لعلماء مثقفين، وقد راجت سوق البدع والخرافات والخزعبلات والأعمال المغايرة لشرع الله تعالى. في ظل هذه الأوضاع الدينية الفاسدة، ينبغي أن نحس مدى صعوبة النشاط الدعوي لفضيلة الشيخ رحمه الله.

الهجرة إلى زاهدان:
في شتاء عام 1374 من الهجرة جاء الشيخ رحمه الله لمعالجة والده إلى زاهدان، وكانت هذه الرحلة سببا لمعرفة أهل زاهدان بالشيخ عبد العزيز رحمه الله ووالده. أصر جمع كبير من أهل زاهدان على فضيلته أن يقيم في مدينة زاهدان، ووافق والده الشيخ عبد الله على هذا الطلب، فأصبح حضوره في هذه المدينة مقطوعا بعد موافقة والده. عاد بوالده بعد العلاج إلى منطقة “سرباز”، ثم رجع إلى زاهدان في أواخر هذا العام نفسه مهاجرا، واستقبله أهل المدينة بحفاوة تامة، وبدأ نشاطا دينيا كبيرا ترك أثرا عظيما في حياة الناس في مدة قصيرة، وظهر تطور كبير في حياة الناس الدينية والثقافية. ثم انتشر بعد سنوات المدارس والمعاهد وازداد عدد الطلبة وحفاظ كتاب الله تعالى وعدد المصلين في المساجد.
كانت أخلاق الشيخ عبد العزيز الكريمة وعلمه وروعة جماله وأحاديثه المؤثرة والنابعة عن الإخلاص والربانية كان يحيي كل قلب ميت.

النشاطات الدينية والدعوية:
الدعوة والتبليغ:
كان الشيخ رحمه الله في مدينة زاهدان مرجعا دينيا ووسيلة للصحوة الدينية والثقافية للناس في هذه المدينة. إن أول نشاط ديني للعلامة في زاهدان هو خطبه ومواعظه وتوجيهاته الدينية النابعة عن قلب مشفق مخلص والتي كانت تترك أثرا كبيرا في حياة الناس، حيث كانت تجري الأعين بالدموع وتتوب القلوب إلى الله عند سماع الموعظة. التدبير والحكمة التي بها بدأ النشاط الديني، كان سببا لزوال الخرافات والخزعبلات والأعمال المغايرة للشريعة الإسلامية وأن تحل محلها التعاليم الدينية الخالصة والأحكام الإسلامية الصحيحة.

حل النزاعات والقضاء في ضوء الشريعة الإسلامية:
الاختلافات والنزاعات موجودة في كل مجتمع، وتقع المهمة على كواهل العلماء أن يعيدوا الحقوق إلى أصحابها بالتأسي بكتاب الله وسنة رسول الله وأن ينفذوا الأحكام الشرعية. بناء على هذا كان من نشاطات العلامة عبد العزيز الأخرى، هي القضاء وحل النزاعات بين الناس. وكأن بيته أصبح محكمة صغيرة يتردد إليه الناس لحل نزاعاتهم، وكان يعتبر رسميا كقاض شرعي من جانب المحكمة. كانت ترفع ملفات النزاعات في المسائل الفقهية مثل الطلاق والزواج وغيرهما إلى الشيخ رحمه الله، طالبين رأيه فيها، فتصدر المحكمة وفقا لفتواه الحكم بشانها.

إنشاء المدارس والمساجد:
الجهود التي كان يبذلها الشيخ عبد العزيز رحمه الله لأجل تحسين الأوضاع الدينية والعلمية، كانت عظيمة، حيث بادر رحمه الله عندما كان في “سرباز” بتأسيس معهد شرعي لأجل هذه الغاية العظيمة.
في أي منطقة لم يكن مسجد للعبادة وتأدية الصلوات الخمسة، كان يدعم أهل تلك المنطقة في بناء المسجد، وبنيت العديد من مساجد مدينة زاهدان والقرى المجاورة لها بمشورة الشيخ رحمه الله. وعندما يقابله شخص من منطقة أخرى، فكان أول ما يسأله هل في منطقتكم مسجد؟ وقام فضيلته بتأسيس وتوسعة عدد من المساجد والمدارس التي نتطرق إلى ذكرها وموقعها باختصار:

1- مسجد النور:
لما هاجر رحمه الله إلى مدينة زاهدان، سكن أولا بجانب هذا المسجد، وتولى إمامة هذا المسجد، وبدأ فيه درس التفسير والحديث. ثم بعد ذلك وسع هذا المسجد، وكان يحضر عدد كبير من الناس درس الشيخ في التفسير بعد صلاة الفجر. وكان ذلك أول مرة يبدأ درس التفسير والحديث في مدينة زاهدان. ولقي الدرس استقبالا كبيرا من قبل المشتاقين والراغبين في علوم القرآن والحديث.

2- الجامع القديم (الجامع العزيزي):
هذا المسجد يقع الآن في مفترق طرق “جكنم” ويشتهرالآن بـ “مسجد عزيزي”. هذا المسجد بناه تجار باكستانيون، وكان “القاضي شاه محمد” هو إمام هذا المسجد، وكان يقيم صلاة الجمعة فيه أيضا، وكان الشيخ يصلي بالناس صلاتي العصر والمغرب، وقد يقيم الجمعة أيضا نظرا إلى أن “القاضي شاه محمد” كان كبير السن. لما توفي “القاضي شاه محمد” رحمه الله سنة 1381 عادت إمامة الجمعة والخطبة فيها إلى الشيخ رحمه الله. نظرا إلى ضيق مساحة المسجد وبنائه القديم، قام فضيلته بتجديد البناء وتوسعة مساحة المسجد. ثم بعد سنوات ازداد عدد المصلين حيث لم يسعهم هذا المكان أيضا. للمرة الثانية هدم الشيخ البناء السابق وبنى عمارة جديدة للمسجد. وفي تلك السنة نقلت صلاة الجمعة إلى الجامع المكي. أصبح المسجد المكي الذي كان أكبر مساجد المدينة، مكان إقامة صلاة الجمعة مع إكمال بناء الجامع العزيزي.

3- المسجد المدني:
يقع هذا المسجد في شارع المدني، وبناه العلامة رحمه الله تعالى سنة 1397. لما أسس رحمه الله تعالى جامعة دار العلوم نقل بيته من جوار مسجد النور إلى جوار المسجد المدني. هذا المسجد أيضا أصبح بسبب حضور الشيخ رحمه الله فيه مركزا لتردد الناس والعلماء، وأقيم فيه درس التفسير والحديث للشيخ رحمه الله بعد صلاة الفجر.

4- المسجد المكي:
بدأ الشيخ رحمه الله تعالى بعد سنوات من تأسيس جامعة دار العلوم زاهدان سنة 1390 بناء هذا المسجد. وانتهت أعمال البناء سنة 1397. وكان يبدو مسجدا كبيرا لم يكن يشعر أحد أنه سيحتاج إلى المزيد من التوسعة في يوم من الأيام. ولكن اشتدت الحاجة في حياة الشيخ رحمه الله إلى توسعة المسجد بسبب ضيق المكان، وكان رحمه الله يفكر في توسعته عندما رأى الناس يصطفون لصلاة الجمعة تحت حرارة الشمس.
بعد وفاة الشيخ رحمه الله أكمل فضيلة الشيخ عبد الحميد حفظه الله، إمام وخطيب أهل السنة في زاهدان، مشروع توسعة بناء المسجد بطريقة جيدة. وتوسع المسجد من النواحي الشمالية والشرقية مرات لحد الآن في عهد الشيخ عبد الحميد حفظه الله. والمسجد لم يزل قيد التوسعة بمشروع جامع كامل يسع أكثر من ستين ألف مصل.

5- معهد إشاعة التوحيد ومسجدها:
لما استقر الشيخ رحمه الله تعالى في زاهدان رأى في الموقع الحالي من مسجد إشاعة التوحيد مكانا خرابا فيه محراب كمحراب المساجد. لما سأل الناس عن ذلك المكان ، اتضح أن الإستعمار البريطاني لما قدموا إلى زاهدان بنى المسلمون الذين كانوا معهم مسجدا في هذا المكان ولكن تهدم عبر مرور الزمان.
فأنشأ الشيخ رحمه الله تعالى بعد المتابعة القانونية للمسئلة سنة 1386 من الهجرة مسجدا في هذا المكان. وبنى عدة غرف أيضا بجانبه لتدريس القرآن الكريم وأحكامه. ثم فوض تولية هذا المسجد والمدرسة إلى أحد علماء مدينة زاهدان، وأسس في شارع خيام المسجد المكي وجامعة دار العلوم.
معهد إشاعة التوحيد معهد شرعي نشط إلى يومنا هذا يتخرج منه سنويا عدد لا بأس به من الطلبة الشرعيين.

6- معهد الأوقاف:
أنشأ الشيخ رحمه الله تعالى في الجامع العزيزي معهدا يجمع بين دراسة الكتب الفقهية والدينية وكذلك كتب المدارس الحكومية. وكان يدفع شهريا للطلبة راتب مقداره 80 تومانا. لكن مع الأسف بعد مرور سنة ونصف تعطل هذا المعهد، وتخلى الداعمون عن دعمه.
لا يعلم من هي الجهة الداعمة ماليا لهذه المدرسة، لكن سماها البعض بمدرسة الأوقاف.

7- جامعة دارالعلوم زاهدان:
بدأ الشيخ رحمه الله بهمة ودعم أهل مدينة زاهدان سنة 1390 من الهجرة النبوية عملية تأسيس معهد دارالعلوم زاهدان. وتم تسجيل الطلبة سنة 1391 للقسم التأهيلي. وجه الشيخ رحمه الله تعالى أساتذة جيدين ومؤهلين للتدريس في هذا المعهد الذي تبدل بعد ذلك إلى جامعة، ودوّن منهجا كاملا للدراسة، وأتى الطلاب من جميع النواحي في إيران إلى هذا المركز العلمي.
بعد وفاة الشيخ عبد العزيز رحمه الله، واصل الشيخ عبد الحميد حفظه الله هذا المشروع العلمي في مدينة زاهدان ببذل جهود جبارة في كافة المجالات العلمية والتربوية والدعوية إلى أن أصبحت جامعة درالعلوم أكبر مركز علمي لأهل السنة في إيران يضم أكثر من ألفي طالب وطالبة يشتغلون بالدراسة في المراحل الدراسية المتعددة وحفظ كتاب الله تعالى. وتنتشر فروعها التعليمية في أنحاء المحافظة.

العلامة عبد العزيز رحمه الله تعالى والدعوة والتبليغ:
جماعة التبليغ حركة دعوية وضع أساسها العلامة محمد إلياس الكاندهلوي في الهند، وبدأت نشاطها الدعوي والتربوي والتبليغ إلى الإسلام والأحكام الدينية. في الأيام التي كان الشيخ عبد العزيز رحمه الله في دهلي عاصمة الهند، تعرف على مؤسس هذه الحركة الدعوية. طلب الشيخ إلياس من فضيلته أن ينصر جماعات التبليغ إن قدمت إلى منطقته بلوشستان، والشيخ عبد العزيز رحمه الله تعالى يعده بمساعدة الجماعات التي ترد إلى بلوشستان متعجبا لما أن الحركة كانت في بداية نشاطاتها.
بعد مدة طويلة في سنة 1374 جاءت أول جماعة إلى بلوشستان. فقام الشيح رحمه الله تعالى إلى نصرها. ثم جاء بعد ذلك جماعات أخرى دعمها الشيخ عبد العزيز رحمه الله تعالى. وكانت تسافر من هنا إلى الجزيرة العربية والبلاد الأخرى وكانت تقوم بمهمة الدعوة والإرشاد والعمل على القرآن الكريم. وقد تقدم نشاط هذه الجماعة في عصرنا ولها مراكز في كثير من مناطق إيران ولنشاطاتها أثر كبير في حياة الشباب والعامة.

النشاطات المدنية والثقافية:
ألف) الحضور في إذاعة زاهدان:
قام المسئولون في إذاعة زاهدان بتفويض مهمة القسم المذهبي في إذاعة زاهدان البلوشية إلى فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى. وبين رحمه الله تعالى المسائل الدينية والأخلاقية والأحكام الفقهية بأسلوب واضح باللغة البلوشية. هذا البرنامج كان يتم بثه يوم الخميس في الأسبوع، ثم بعد ذلك زيد على هذه المدة يوم الإثنين أيضا للجواب على استفسارات السامعين وأسئلتهم.
كان البرنامج المذكور يعتبر في ذلك الوقت المصدر الوحيد لتعلم الكثير من المباحث الدينية وفهمها لكافة أهل بلوشستان والبلوش الساكنين في بلاد أخرى مثل تنزانيا وتركمنستان، وكان يترك أثرا كبيرا في حياة الناس وإصلاح معتقداتهم وأعمالهم. في الكثير من القرى التي كان يوجد مذياع واحد، يجتمع أهل تلك القرية حولها ويستمعون توجيهات الشيخ رحمه الله تعالى.

ب) النشاط التعليمي في إدارة التربية والتعليم في المحافظة:
تمت معادلة شهادة العلامة رحمه الله تعالى في تاريخ 1376 في المجلس الأعلى لوزارة الثقافة بمستوى الإفتاء. طالب الشيخ رحمه الله، بهدف التربية الدينية للجيل الشاب، من المسئولين في عهده أن يسمحوا بتأسيس ثانوية تهتم أكثر إلى القضايا الدينية والمسائل الفقهية لأهل السنة.
بعد مراسلات عديدة أسست ثانوية “المعقول والمنقول” بصف دراسي واحد و35 طالب كفرع لثانوية التمدن في زاهدان. وفوض الإشراف على التعليمي الديني والمذهبي فيها إلى الشيخ رحمه الله تعالى. والدراسة في هذه الثانوية كانت في مرحلتين حسب عادة التعليم في ذلك الوقت. المرحلة الأولى للصف السابع والثامن والتاسع، والمرحلة الثانية للعاشر والحادي عشر والثاني عشر.
وهذا الفرع للتعليم كانت خاصة بالطلبة السنّة، وكانت فرصة قيمة لرقيهم العلمي. وكان يُدفع للطبة راتب شهري. لكن مع الأسف انحلت هذه الثانوية سنة 1388 وواصل الطلبة دراساتهم في المواد الأخرى في سائر الثانويات في مدينة زاهدان. والشيخ رحمه الله تعالى كأستاذ اللغة العربية والدينية أيضا واصل مهمة التدريس في الثانويات الأخرى إلى أن تقاعد سنة 1401 من التدريس.

ج) حل النزاعات القبلية:
مدينة زاهدان بسبب نسيجه القومي والقبلي كانت تشهد بين فينة وأخرى حروبا قبلية أو نزاعات بين القبائل المختلفة. كان الشيخ عبد العزيز رحمه الله يعاني بشدة من هذه الأزمة والظاهرة السيئة، وكان يسعى كثيرا لتوعية الناس، وتبليغ القيم الدينية والإسلامية، وكان يطلب دائما في خطبه ومواعظه من الناس أن ينبذوا الخلافات القبلية وأن لا يغتروا بقبيلتهم وقوميتهم، لأن الناس جميعا من أولاد آدم وحواء، والأكرم عند الله تعالى هو الأتقى. نتيجة هذه التوجيهات للشيخ رحمه الله تعالى، صارت النزاعات القبلية تتوارى عن حياة الناس. وأشد النزاعات كانت تحل بكلام الشيخ رحمه الله تعالى. لم يوحد الشيخ رحمه الله تعالى الطوائف بل وحد بين جميع الأقوام الساكنين في بلوشستان ليشعروا بالأخوة ومحبة النوع، وأن تكون بينهم علاقات ودية، وفي الحقيقة المجتمع البلوشي كان في ذلك الوقت نموذجا وأسوة للوحدة الوطنية والانسجام الإسلامي.

نظرة إلى النشاطات السياسية لفضيلة الشيخ عبد العزيز قبل الثورة:
ألف) الوقوف ضد ترحيل العشائر البلوشية لمواجهة عشائر محافظة فارس:
سنة 1382 من الهجرة، نفذ شاه إيران مشروع تعديل الأراضي. هذا المشروع كان سببا للإضرار بالكثير من الفلاحين وأن يفقدوا أراضيهم. وامتنع سنة 1383 العشائر القشقائيين في محافظة فارس من قبول هذ المشروع. هذه القضية صارت سبب النزاع بينهم وبين القوات الحكومية، وكانت النهضة الشعبية واسعة، عجزت أمامها القوات الحكومية؛ لذلك أرسل “أسد الله علم”، “خزيمة علم” إلى منطقة سيستان وبلوشستان لتجهيز العشائر البلوشية لقمع عشائر محافظة فارس.
لما تفطن الشيخ رحمه الله أن هؤلاء يستغلون الفقر والأمية في المنقطة ويقومون بتعبئة العشائر لقتال مواطنيهم في منطقة أخرى بدل شيء قليل من المال، عندما كانت الحكومة تجمع قوات بلوشية، وقف في عيد تلك السنة ضد هذا القرار، منتقدا إياه، وطالب من البلوش أن لا يقبلوا هذا الأمر. وأفتى أن الذي يقتل في هذه النزاعات لا تكون ميتته إسلامية ويرتكب خطأ كبيرا. لذلك خلع الناس الملابس العسكرية وأعادوا أسلحتهم للدولة وانصرفوا عن الذهاب إلى فارس. هذا الموقف للشيخ رحمه الله أثار “علم” والقوات الحكومية وأرادوا النيل من الشيخ رحمه الله تعالى، لكنهم غُلبوا تجاه هيبة الشيخ رحمه الله تعالى وقوته الإيمانية.

ب) تأسيس حزب إتحاد المسلمين:
لما تغيرت الأوضاع في إيران وكانت تذهب نحو الصحوة والثورة وانتصار الثورة، اجتمع عدد من العلماء ليعلنوا نشاطهم الديني والإسلامي في قالب حزب منظم، ويتخذوا قراراتهم وموافقهم وفقا للأوضاع والظروف التي يعيشون فيها.
أعلن حزب اتحاد المسلمين بقيادة الشيخ رحمه الله تعالى ظهوره رسميا، وانتشرت أهداف هذا الحزب في ميثاق مدون.
ورد في الميثاق، أهداف الحزب كالتالي:
نشر الدين الإسلامي، وتقوية الوحدة الوطنية، ونشر الحريات الدينية والمدنية، والأخوة والمساواة وفقا لقوانين الشريعة الإسلامية، ومكافحة المفاسد الأخلاقية والإجتماعية والسياسية، وحرية الرأي والأفكار وفقا للتعاليم الشرعية، ومراعاة حرمة الثقافات واللغات المحلية، وغيرها من الأهداف.
أنشأ هذا الحزب مكاتب مختلفة في مدن مختلفة وأقام عدة مؤتمرات، واستطاع أن ينقل مطالب الناس إلى المسئولين. استطاع هذا الحزب في عمره القصير أن يقدم نشاطات جيدة، كحشد الناس للحضور في الاستفتاء العام بشأن التصويت للجمهوري الإسلامي، والمشاركة في انتخابات المجلس الشورى والرئاسة الجمهورية، والمحافظة على سيادة أراضي البلاد، وتثبيت الأمن في المنطقة، ونشر إعلانات صريحة واضحة في الدفاع عن حقوق الناس الوطنية والدينية في المحافظة، والحضور في مجلس خبراء الدستور، والدفاع عن حقوق أهل السنة في إيران، وغيرها من الأعمال الكبرى. ثم توقفت نشاطات هذا الحزب بسبب الحساسيات العالقة.

العلامة عبد العزيز رحمه الله والثورة الإسلامية في إيران:
كان العلامة رحمه الله يحلم قديما أن تنفذ الأحكام الإسلامية في جميع البلاد الإسلامية وأن يلتزم الحكام المسلمون بتعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية. بناء على هذا دعم رحمه الله الثورة في إيران، وطلب من الشعب أن يشاركوا في الاستفتاء ويصوتوا لصالح الجمهوري الإسلامي.
وكان الشيخ رحمه الله يطلب من مسؤولي النظام أن يشكروا الله تعالى على هذه النعمة ويسعوا في مراعاة العدل والمساواة، ولا يعيدوا الأخطاء التي ارتكبها النظام السابق. وكان يقول دائما إن هذه الانتصار من جانب الله تعالى ولو أننا تركنا العدل ونستبد بالحكم والرأي، تتغير إرادة الله تعالى بالنسبة لنا. الشيخ رحمه الله كان يدعم الثورة والنظام الإسلامي، ومن جانب آخر أيضا لم ينس أن يتابع مطالب الشعب المشروعة.

الشيخ عبد العزيز رحمه الله داعية الأمن والوحدة في بلوشستان:
شهدت محافظة سيستان وبلوشستان اضطرابات فقدت أمنها في بداية الثورة، وحاولت جماعات وأحزاب مختلفة في إثارة الأزمات والحروب، ولم تسيطر الحكومة المركزية على المنطقة. فقام الشيخ رحمه الله بدعوة الناس إلى الأمن والهدوء، ولم يسمح للأجانب والأعداء أن يستغلوا الأوضاع المتدهورة ضد مصلحة أهل المحافظة.
كان رحمه الله يعتقد أن الاضطرابات الأمنية تضر بالمحافظة وأهلها وبمصالح الشعب في المحافظة، ويمكن تحقيق المطالب المشروعة في ظل الأمن والهدوء.

تأكيد الشيخ عبد العزيز رحمه الله على حفظ سيادة أراضي البلاد:
هتاف “الانفصالية” و”الاستقلالية” في بداية الثورة كان لها أتباعه ومن يصفق له. كان يدعم الكثير من رؤساء القبائل والجماعات اليسارية والشباب المثقفين هذه الهتافات التي كدرت الأوضاع الأمنية في المنطقة.
استطاع العلامة عبد العزيز رحمه الله بالدراية والتدبير أن يطوي الفتنة التي كانت تذهب لتحصد بأرواح الكثيرين من أهل المحافظة وأن تبتلى هذه المنطقة بمصير مناطق مختلفة أخرى في إيران. حذر الشيخ رحمه الله تعالى الشعب أن لا يغتروا بالهتافات الخاوية ولا يتأثروا بالتيارات الأجنبية. كان الشيخ يعتقد أن الإنفصالية تقتضي شروطا خاصة لها. وكان يقول بالصراحة في مقابلاته “لسنا إنفصاليون” والاستقلال في كافة الأمور ليس في مصلحتنا. نحن نريد أن يكون أهل المحافظة مشاركين في القرارات التي تتخذ في المجالات الثقافية والسياسية.

المطالبة بتوظيف السكان الأصليين في المشاغل الإدارية والقوات المسلحة:
كما أن العلامة رحمه الله كان يؤكد على ضرورة الأمن والحفاظ على سيادة أراضي البلاد، يطالب أيضا المسئولين بتلبية المطالب الدينية والوطنية المشروعة.
مطالبة توظيف المؤهلين من أهل المحافظة في المشاغل الإدارية والقوات المسلحة في بداية الثورة كانت من أبرز مطالبه، لأن رغم وجود مؤهلين من أهل المحافظة وتوفر الشهادات العلمية العالمية، كان التمييز واضحا في التوظيفات.
في بداية الثورة كان يتم توظيف بعض المؤهلين من أهل المحافظة بطلب العلامة رحمه الله تعالى، وتعيين المحافظ وسائر رؤساء الدوائر الحكومية كان يتم بمشورة مع الشيخ رحمه الله تعالى. لم يكن الشيخ رحمه الله مخالفا لاستخدام المسؤولين من خارج المحافظة، لكنه كان يعتقد أنه مادام الأشخاص المؤهلون من أهل المحافظة موجودين، فالأولوية لهم في المناصب.

المجالس المحلية:
من أصول الدستور التي جرت المناقشة حولها كثيرا في مجلس خبراء القيادة، هي أصل المجالس المحلية. كان الشيخ رحمه الله يعتقد أنه يجب أن تكون اتخاذ القرارات في كل مدينة ومحافظة وفقا لإرادة المجالس المحلية فيها. وكل عمل وخطوة تتخذ، يجب أن تكون بمشورة هذه المجالس.
وكان رحمه الله يقول: إذا كانت هذه المجالس فاقدة للصلاحية والاختيار، ولا اختيار لها حتى في تعيين الرؤساء في الدوائر ولا حاكم المدن، فأين احترامنا لآراء الشعب؟ وهذه المناصب من رئاسة الدوائر وحكام المدن إذا كانت منتصبة من جهة معينة، فما الفرق بين الجمهوري الإسلامي والنظام السابق؟
كان يرى الشيخ رحمه الله أن المحافظ وحكام المدن ورؤساء الدوائر يجب أن يتم تعيينهم بانتخاب المجالس المحلية في المحافظة أو المدينة أو القرى. ووصف رحمه الله تعالى أن اختيارات المجالس المحلية في مسودة الدستور مبهمة ويجب أن تتضح.

اللقاء مع مؤسس الثورة:
التقى فضيلة الشيخ عبد العزيز في سفره إلى العراق وزيارة مدينتي البصرة وبغداد لأول مرة مع آية الله خميني في منفاه.
ثم بعد ذلك التقى مع آية الله خميني مرات كثيرة في بداية الثورة، وكان يعرض عليه مطالب الناس ومشكلات المحافظة، وكان يطالب بإزالة هذه المشكلات ومتابعتها.
كان موضوع لقاءاته مع آية الله خميني هو طلب السماح ببناء مسجد لأهل السنة في طهران، والاحتجاج على الأصل الثالث عشر من الدستور، وتوظيف المؤهلين من أهل المحافظة في الدوائر والمناصب في المحافظة، والتعامل السيء للمؤظفين والمسئولين.

لقاء المسئولين مع الشيخ عبد العزيز في رحلاتهم إلى بلوشستان:
قبل الثورة وبعدها، كان العديد من المسؤولين يترددون إلى المحافظة لزيارة أهل المنطقة واستجلاب ثقتهم ومتابعة مشكلاتهم. قدم إلى المحافظة وجوه بارزة كالحاج إسحاق زنجاني، والسيد سعيدي، وآية الله خامنه اي، والمهندس بازركان، والدكتور يزدي، والدكتور باهنر، وآيت الله رفسنجاني، وجمع آخر من وجهاء الثورة في أوائل الثورة إلى المحافظة.
ولما أن الشيخ عبد العزيز رحمه الله كان يتمتع بمكانة مذهبية واجتماعية، كان أول زيارة هؤلاء المسئولين مع فضيلته، وأصبح بيت الشيخ مكتبا للجسات والإقبال الشعبي ومراجعة المسؤولين. جاء آية الله خامنه اي مرات إلى بيت الشيخ رحمه الله.
كانوا يوضحون أهداف وبرامج النظام الإسلامي، وأحيانا كانوا يقدمون لبحث الأوضاع الأمنية وإزالة المشكلات وحلها. وكان الشيخ رحمه الله تعالى يعرض عليهم بكل صراحة مطالب الناس الوطنية والمذهبية المشروعة.

دوره في حل النزاع في مصلى زاهدان المعروف بـ “نزاع المصلى”:
في نهاية شهر محرم من عام 1400 عندما اجتمع جمع كبير من أهل مدينة زاهدان على دعوة العلامة عبد العزيز رحمه الله لاستماع كلمة الدكتور يزدي، ممثل آية الله خميني، في مصلى أهل السنة في زاهدان، بدأ إطلاق الرصاص من أطراف المصلى ورمي الأحجار.
بدأ النزاع بين البلوش من ناحية وبين السيستانيين والفرس من ناحية أخرى. وقد أعد البلوش أنفسهم للهجوم المسلح على المدينة والنزاع الشديد، وطالبوا الشيخ بمغادرة المدينة. لكن فضيلة الشيخ رحمه الله تعالى كان يملك رؤية عميقة من أحوال الناس والبلاد، وكان يعرف جيدا أن هذا النزاع أشعله أناس لديهم أهدافهم ونواياهم الخاصة لتشويه سمعة البلوش وإيقاعهم في المهالك. تكمن مصلحة الناس من البلوش والسيستانيين والفرس في الأمن والهدوء.
لذلك دعا في رسالة من الإذاعة الناس إلى الهدوء وحذر من مواصلة النزاع والأزمة الأمنية. هذه الخطوة من جانب الشيخ رحمه الله أعادت الأمن والهدوء إلى المدينة.

الشيخ رحمه الله في مجلس خبراء القيادة:
كان أهل السنّة منذ انطلاق الثورة يطالبون بمشاركة فقهاء أهل السنة في تدوين الدستور. بناء على هذا وصل الشيخ عبد العزيز رحمه الله وحميد الله مير مرادزهي، مرشحا حزب اتحاد المسلمين بالنيابة عن أهل المحافظة في انتخابات سنة 1399 إلى مجلس خبراء القيادة. الحضور الفعال لفضيلة الشيخ ودفاعه عن مواقف أهل السنة زاد من محبته في قلوب الشعب الإيراني.
احتج رحمه الله على عدد من مواد الدستور، وعلى رأسها المادة الثالثة عشر من الدستور الإيراني الذي يصرح بالجعفرية كالمذهب الرسمي لإيران.
قال رحمه الله في مواضع متعدد في المجلس، منتقدا هذه المادة: “في البلد الذي شارك الشيعة والسنة معا في ثورته، وأهل السنّة يشكلون جزءا ملحوظا من سكانه، إذا اعترف بمذهب من المذاهب في الدستور، ينبغي أن يعترف بالسنّة إلى جانب الشيعة. وكان من الأفضل أن يكتب في الدستور ان الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذاهب كلها من الشيعة والسنة تعترف بها”.
مع الأسف رفض اقتراح الشيخ رحمه الله وأثار قلق الشيخ وشكواه من مسؤولي النظام، ولذلك أعلن استقالته من المجلس المذكور.

رؤيته في الوحدة والتقريب بين المذاهب:
كانت الوحدة والانسجام موجودة بين الطائفتين التين تعيشان في محافظة سيستان وبلوشستان نتيجة الجهود التي بذلها العلماء قبل الثورة وبعدها. والنزاعات الطائفية قلما تحدث في المنطقة.
كان الشيخ رحمه الله تعالى أسوة للوحدة في المنطقة. كان رحمه الله يؤكد أن أعداء الدين الإسلامي يحاولون دائما التفريق وإثارة الفتن بين المذاهب، وكان يوجه دائما خطابة إلى المسؤولين أن لا يفرقوا بين السنة والشيعة. وكان يقول أن هذه الحكومة الإسلامية فرصة للوحدة بين المسلمين في العالم، ولا ينبغي أن يكون التأكيد على المذهب الشيعي بطريقة تكون سببا لقلق أهل السنة وجرح مشاعرهم.

النزاع في “كنبد”:
تدهورت الأوضاع الأمنية في تركمن صحراء (شمالي إيران) في بداية 1399 بسبب النزاع المسلح بين الثوار التركمان مع الدولة الجديدة.
الدولة المؤقتة كانت تعرف أن لفضيلة الشيخ عبد العزيز رحمه الله مكانة في المناطق السنية، لذلك طلب من فضيلته أن يدعو الثوار إلى الأمن والهدوء، وأن يقوم بخطوة تجنب المزيد من إراقة دماء الأبرياء.
العلامة رحمه الله قبل هذا الاقتراح وانتقل مع عدد من علماء بلوشستان بطائرة من الجيش إلى مدينة كلالة. ومن هنا انتقل إلى مدينة كنبد، محل النزاع ومركز الثوار. وتكلم مع رئيسهم الذي كان يسمى بـ”ارزانش”، ودعاهم في هذه المقابلة بالتخلي عن السلاح ومراعاة الأمن، وبين أن هذه الأوضاع المتدهورة لا تثمر إلا إراقة دماء الأبرياء وقمع الشعب التركماني والخسائر في أموالهم وأنفسهم.
بعد ساعة من المفاوضة رضي الثوار التركمان بالتخلي عن أسلحتهم بشرط إطلاق سراح رهائنهم وعدم مطارد المسلحين. وفي اليوم الثاني تم تبادل أسرى الجانبين، وترك الثوار المدينة وعاد الأمن إلى المنطقة.
في ذلك السفر ألقى الشيخ رحمه الله تعالى خطبة في مدينة كلالة حضرها أكثر أهل المدينة والمسئولين.

رحلات العلامة عبد العزيز رحمه الله:
للرحلة أثر كبير في الأفكار والمشاعر، ويعرف الكثير من المجهولات في السفر. لقد زادت تجارب العلامة رحمه الله بسبب رحلاته الكثيرة في الداخل والخارج، كما زادت سعة صدره وقبوله النقد. وكان يقول رحمه الله: “تعلمت الكثير من الأمور في السفر”.
ونشير إلى بعض أسفاره باختصار:

ألف) رحلته إلى باكستان:
الرحلة الأولى للشيخ إلى باكستان كانت للدراسة. لكن بعد التخرج أيضا سافر إلى باكستان كل سنة مرة لزيارة الأساتذة والعلماء الكبار هناك. كان يذهب أحيانا للحضور في دورة التفسير للشيخ “غلام الله خان” من العلماء الكبار في مدينة “راولبندي”. دائما كان يلتقي بالعلامة “أحمد على اللاهوري” ويستفيد منه. وعندما كان يأتي إلى كراتشي يزوره عدد من العلماء الكبار في مدينة كراتشي.

ب) رحلته إلى السعودية:
سافر رحمه الله للحج سنة 1368 وأقام سنتين هناك، درس خلالها في المدرسة الصولتية. ثم لما عاد إلى زاهدان أقام في هذه المدينة، وكان يسافر كل سنة إلى السعودية كعالم قافلة الحج. وأحيانا كان يسافر للعمرة.
كان رحمه الله تعالى يملك عشقا وافرا وعظيما إلى الحرمين الشريفين. أحيانا يقوم في رحلاته بزيارة علماء السعودية وسائر البلاد الإسلامية، وينتفع من هذه الفرصة للتعرف على أوضاع وأحوال المسلمين في العالم.

ج) رحلته إلى الهند:
بعد التخرج من جامعة دار العلوم ديوبند، سافر رحمه الله تعالى في سنة 1400 بناء على دعوة مسؤولي الجامعة للمشاركة في جلسة بمناسبة مرور مائة سنة على تأسيس هذا المركز العلمي. لقد حضر ذلك الاجتماع علماء كبار من الهند وباكستان وسائر الدول وخريجو هذه الجامعة. كانت فرصة قيمة لزيارة الشخصيات العلمية والعلماء البارزين والتعرف عليهم.

ه) رحلته إلى أفغانستان:
في سنة 1365 من الهجرة سافر الشيخ رحمه الله مع جماعة من علماء بلوشستان لزيارة الشيخ “غوث محمد جان” أحد علماء أفغانستان. كان لهذا العالم أتباع ومريدون في بلوشستان، وقد صدرت بعض الأعمال المغايرة للشريعة الإسلامية من “غلام محمد دالبنديني”، أحد أتباعه وممثليه في بلوشستان.
كان الهدف من هذه الرحلة للشيخ عبد العزيز رحمه الله، زيارة مع مرشد “غلام محمد دالبنديني” ليراه من قريب. وفي المدة التي كان عنده، شاهد منه خلافا لما كان يتوقع، بعض الأعمال المغايرة للشريعة الإسلامية التي كانت سببا لقطع العلاقة به. كان الشيخ رحمه الله يهتم لإصلاح الباطن والتزكية إلا أنه كان حذرا جدا أن لا تصدر أعمال مغايرة للشريعة الإسلامية.

و) رحلته إلى سوريا:
في شهر ذي الحجة من عام 1400 سافر رحمه الله بعد أداء فريضة الحج إلى سوريا، والتقى في هذا السفر بكبار علماء سوريا كالشيخ راتب النابلسي والدكتور فتحي الدريني والدكتور رمضان البوطي والشيخ عبدالقادر الأرناووط وغيرهم، كما زار بعض الأماكن التاريخية.

ز) رحلته إلى بريطانيا:
سافر رحمه الله في شعبان 1400 إلى لندن للعلاج. استقبله هناك الكثير من البلوش، وقابل الأطباء المتخصصين والمستشفيات الراقية، ووصفوا له أدوية، لكنهم نصحوا بأن الطريق الوحيد هي العملية الجراحية للمشكلات القلبية، لكن الشيخ رحمه الله لم يرض أن تكون العملية الجراحية هناك.
في فرصة الشهرين اللذين كان في لندن، كان يقضي أوقاته في تلاوة القرآن الكريم ومطالعة الكتب. ودعي أيضا إلى سفارة إيران في لندن ووافق رحمه الله على ذلك وذهب إلى السفارة وشارك في الجلسة التي أقامها الطلبة الإيرانيون المقيمون في لندن وألقى خطبة فيها. طلب بعض المعارضين، من الشيخ رحمه الله أن يقيم في لندن وهم يقومون بدعمه، لكن الشيخ رحمه الله طلب منهم أن يعودوا إلى الوطن وينشطوا لرقي بلادهم.

ح) رحلته إلى الولايات المتحدة:
اشتدت المشكلة القلبية لدى الشيخ رحمه الله وهذه المرة نصحه الأطباء بالسفر إلى بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. في سنة 1405 اتجه من دبي إلى لندن ومن ثم إلى نيويورك. مع الأسف فقد هناك كليتيه. مع ذلك انتفع بتلك الفرصة في زيارته، من المراكز الدينية والإسلامية والناشطين في المجال الديني.
لهذه الرحلة كان أثر كبير في حياته، وتأثر بالنشاطات الدينية للشباب المسلمين والدعاة المجتهدين في تلك البيئة البعيدة عن الإسلام والدين الإسلامي.

الخصائص الأخلاقية لفضيلة الشيخ رحمه الله:
كان الشيخ رحمه الله بإجماع معاصريه من العلماء والمثقفين والعامة، جامعا للكثير من الصفات الأخلاقية والإيمانية، وكانت شخصية جمعت الصفات العديدة والعظيمة. يجدر بنا أن نشير هنا إلى بعض خصائصه الأخلاقية.

1- الورع والتقوى
التقوى من أهم خصائص عباد الله المخلصين، وذكر الله تعالى التقوى في القرآن الكريم وقال: “إنما يخشى الله من عباده العلماء”. حياة العلامة رحمه الله كانت مليئة بالتقوى والورع –كما نحسبه-، وقد كانت آثار التقوى ظاهرة في أعماله وأقواله وتصرفاته. العبادات المليئة بالخشوع الخضوع وأدعيته في جنح الليل وتضرعه إلى الله تعالى، وانطلاق الحق على لسانه والشجاعة، والمؤاساة مع العامة، والتثبت في أموال وحسابات بيت المال، والإنفاق والصدقات، والكثير من خصائصه، كلها كانت مظاهر من التقوى والورع لدى هذا العالم الكبير، وهذا ما جعل كلامه مؤثرا في قلوب الناس.

2- التقشف وقلة التكلف
لا شك أن الاستفادة من النعم المادية والإمكانات الحديثة مباحة في الشريعة الإسلامية، لكن بعض الأمور تكون مطلوبة من القادة والزعماء الدينيين وليست مطلوبة من العامة، لأنهم أسوة للناس، ويتعلم الناس دينهم وأعمالهم وإيمانهم من هؤلاء.
لأجل هذا نرى أن الشيخ رحمه الله تعالى كان يقضي حياة بسيطة وبعيدة عن التكلف، ولم يكن وراء جمع الأموال والحياة المادية، وكان بعيدا عن التكلفات والتجملات والإسراف والتبذير. رغم أنه كان سخيا لكنه كان يتجنب الإسراف وكان مصداقا للجود من الموجود، ويقدم إلى الضيف ما يوجد في البيت. ونظرا إلى مكانته الإجتماعية وإمكانية الوصول إلى أفضل المواقع التجارية لم يفكر أبدا في جمع الأموال، وترك لورثته بعد وفاته منزلا بسيطا.

3- التواضع لله تعالى
للتواضع أهمية خاصة في الدين الإسلامي، يهتم به علماء الأخلاق والتزكية اهتماما بالغا. كان الشيخ عبد العزيز رحمه الله مع مكانته العلمية والاجتماعية كان إنسانا متواضعا يحترم الجميع، ويخفض جناح الذل لأفقر الناس وأقلهم مكانة، وكان يمنع الناس من القيام له، ولم يكن يسمح بتقبيل يده. ورغم حضوره في المسجد في أوقات الصلاة إلا أنه كان يأمر طالبا أو عالما غيره بالإمة في الصلاة ويقتدي به.

4- الشجاعة والصراحة في بيان الحق
كان الشيخ رحمه الله تعالى من أشجع الناس في بلوشستان. لم يكن يخاف أحدا في بيان الحقائق الدينية والدفاع عن الأحكام الإسلامية.
كان يدافع بصراحة عن الحقوق الدينية والوطنية للناس. له مواقف شجاعة في قضية تعديل الأراضي، وفي الجلسات والمؤتمرات في بداية الثورة، وفي مجلس خبراء القيادة. لكنه رغم شجاعته التي لا مثيل له، يفضل اللهجة السلمية مع العامة والمسئولين، وكان يحب لله تعالى ويبغض له عز وجل، وعندما كان يشهد ما فيه سخط الله تعالى ينكره.

5- سعة الأفق ورحابة الصدر
سعة الأفق ورحابة الصدر من خصائص الإنسان الورع الرباني وأهل البصيرة. الذين رافقوا الشيخ رحمه الله، شهدوا بأنه رحمه الله كان يملك سعة صدر وأفق، وكانت لديه أهلية قبول النقد. كان دائما يقول: “أحبائنا لا يذكروننا بمعايبنا، والأفضل أن نستمع عيوبنا من منتقدينا ومخالفينا فنصلح أنفسنا”.
وكان تعامله مع المنتقد تعاملا حسنا، وقد يترك أثرا كبيرا في شخصية المنتقد. وإن كان شخص ينتقده بين أحبائه ومريديه، يبغضهم، ولكن الشيخ كان يهدئهم ويقول لهم: “في المسائل العلمية لكل شخص رأي ولا ينبغي أن نقلق من كلام أحد”.

6- التهجد وقيام الليل
من أبرز صفاته رحمه الله قيام الليل والتهجد، ولا يمكن وصف حالته أثناء القيام والتضرع إلى الله تعالى لمن لم يشاهده في تلك الحالة. تلاوة القرآن الكريم وذكر الله تعالى وصلاة التهجد والدعاء والتضرع في آناء الليل، كانت من علامات إيمانه وإخلاصه وخشيته البالغة من الله تعالى، وبهذه القوة الإيمانية كان يفوق الكثير من المشكلات. كان دائما يقول الحق ويقف في وجه الظلم، وكان يهتم كثيرا بتزكية النفس والإصلاح، ويراعي الاعتدال في كافة ذلك، وكان يعتقد أن العبادة يجب أن تكون وفقا للسنة النبوية.

7- السخاء وإكرامه للضيف
كان رحمه الله سخيا جوادا، وكان بيته لا يخلو من ضيف أو مسافر. والكثير من الضيوف كانوا يقدمون من جنوب بلوشستان ومن المناطق الأخرى، وكانوا يسئلون عن بيت الشيخ فيقيمون عنده، وكان يحضر مائدته الكثير من الفقراء والمساكين، وكان يستقبل الجميع بوجه طلق. كان يتبرع رحمه الله على الفقراء، وعندما تجمع التبرعات لمسجد أو معهد فكان ينفق أكثر من غيره.

مجالس الشيخ رحمه الله:
قد كانت العادة قديما أن يحضر الناس مجالس الكبار والعلماء وينتفعوا من منهلهم العذب في العلوم والمعارف الدينية.
كانت مجالس العلامة رحمه الله من المجالس التي يرتادها العامة والخاصة وكل يقتبس من أنوار هذه المجالس ويكتسب حسب طاقته. عندما كان يوضح المسائل التاريخية والعلمية، كانت تترك أثرا كبيرا في قلوب الناس. كانت مجالسه متنوعة لا يمل منها أحد. كان قد يمازح أحيانا ويبين بعض الطرائف التي تكون سبب فرح الحاضرين وسرورهم، وكان يسعى أن يتحدث قليلا ويستمع أكثر.

مكانته العلمية:
لا شك أن الكلمة الأولى في المسائل الفقهية كانت للشيخ رحمه الله، ويراجعه الناس لحل المشكلات الفقهية من المناطق المختلفة. وقد حفظ في شبابه كتاب “كنز الدقائق” الذي هو من كتب المتون الفقهية، وكان له ذوق كبير في الفتوى وعلم الفقه، وكان يعشق المطالعة. حمل معه بعد العودة من السفر كتبا كثيرة وكان دائما يطالعها، وكانت فتاواه مستدلة ومبرهنة؛ وكان يملك رحمه الله قوة كبيرة في الاحتجاج والاستنباط، وله أسلوب خاص في كيفية تدريس القرآن الكريم وتفهيمه وتوضيحاته.
عندما كان يسأله شخص سؤالا كان يجيب بطريقة تبعث ترحيب السائل، وكان يرد على الملفات والمسائل الخاصة بأهل السنة في محكمة زاهدان، وإليه ترد ملفات الطلاق والزواج الخاصة بأهل السنة للحل. وقد اتفق معاصروه على تفوقه العلمي والاجتماعي.

تعظيمه للعلم وإجلاله للعلماء:
الشيخ رحمه الله كان ينظر إلى أهل العلم بإجلال واحترام، لما أن هؤلاء العلماء يسعون في مكافحة الجهل وتربية الناس، وكان يبجل أي عالم يرد مجلسه.
في المجالس المختلفة عندما كان يرى عالما أو طالبا في المجلس، كان يناديه فيجلسه بجانبه، وكان دائما يبعث روح العزة في نفوس الطلبة والعلماء، وكان يذهب إلى زيارة العلماء ويوصيهم أن يعرفوا مكانتهم ولا يحقروا أنفسهم بأعمالهم المغايرة للشريعة الإسلامية.

المرض والوفاة:
تعرض رحمه الله لنوبة قلبية لأول مرة في عام 1399 في بداية الثورة، حيث نقل بطائرة خاصة إلى مستشفى رجائي للأمراض القلبية في طهران. في عام 1400 سافر إلى بريطانيا للعلاج، حيث تحسنت صحته لحد ما بعد المعالجة، لكن مع اشتداد المرض سافر هذه المرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1405. لم تتحسن صحته هذه المرة بل تعطل عمل الكليتين أيضا. وبعد ذلك كان تتم عملية غسيل الكلى لتصفية الدم حينا بعد حين، ولم يكن زرع الكلى ممكنا بسبب الشيخوخة. سنة 1407 نقل إلى مستشفى مشهد.
في جميع أيام المرض لم يسمع منه شكوى ولا فزع، بل عندما سئل عن حاله كان يقول “الحمد لله”، وكان يقول: “المرض دفعني أن أعرف المزيد من عيوبي”. عندما كان يتلو القرآن الكريم أيام المرض، يتدبر في معانيه أكثر، وكان يقول: “الكثير من الآيات القرآنية أحسن فهمها أيام المرض”. وكان يكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قد أضناه المرض وأضعفه، إلى أن وافته المنية في منتصف يوم الأربعاء 16 ذي الحجة 1407 بعد ما نطق الشهادتين وقت السحر الذي تعود بالعبادة وكثرة التلاوة فيه.
بعد الوفاة المؤلمة، تم نقل جثمانه إلى مدينة زاهدان، ثم نقلت الجنازة حسب وصيته بعد الغسل والتكفين والصلاة إلى قرية “حيط” بجانب قبر والده الشيخ عبد الله رحمه الله حيث أودع جثمانه إلى مثواه الأخير.
رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جنانه.