- سني أون لاین - https://sunnionline.us/arabic -

العالم الداعية فضيلة الشيخ السيّد أسعد المدني رحمه الله

المولد والمنشأ: هو الشيخ السيد أسعد المدني رحمه الله المعروف بشيخ الإسلام. كان رحمه الله شيخ الحديث الأسبق بالجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبند، ورئيس جمعية علماء الهند، وعضو المجلس الاستشاري بجامعة دارالعلوم ديوبند، والنجل الأكبر لشيخ الإسلام المجاهد الشيخ حسين أحمد المدني رحمه الله (المتوفى 1377هـ / 1957م).
ولد رحمه الله تعالى يوم الجمعة 6 من ذي القعدة 1346هـ الموافق 27 أبريل 1928م. تلقى مبادئ التعليم على والدته التي توفيت عنه وهو في 9 من عمره، عام 1355هـ / 1936م، وعلى والده رحمه الله . ثم على أحد المنقطعين إلى خدمة والده، المقرئ أصغر علي السهسبوري رحمه الله، ثم التحق بدار العلوم ديوبند، وتلقى فيها التعليم بجميع مراحله، حتى تخرج منها عام 1365هـ / 1946م .
بعد ما تخرّج من دار العلوم، أمضى فترة بالمدينة المنورة التي كان استوطنها عدد من أعضاء أسرته؛ حيث كان قد نزح إليها من الهند جدّه مع أفراد عائلته وأبنائه.
ثم عُيِّن مدرسًا بدارالعلوم ديوبند يوم 28 شوال 1370هـ الموافق 5 يوليو 1951م . وظلّ يقوم بخدمة التدريس لعام 1382هـ  1962م حيث استقال منها؛ وتفرّغ للخدمات القيادية والأعمال التوجيهيّة التي كان موفّقًا لها. في عام1380هـ/1960م عُيّن رئيسًا إقليميًّا لجمعية علماء الهند لولاية أترابراديش. وفي 9 أغسطس 1963م (16 ربيع الثاني 1383هـ) انتخب أمينًا عامًّا لجمعية علماء الهند، ثم انتخب ممثلا بالهند لمجمع البحوث الإسلامية بالجامع الأزهر بمصر عام 1968م (1388هـ) وشارك في مؤتمراته: الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، المنعقدة بالقاهرة في السنوات: 1968م، 1970م، 1971م، 1972م .
انتخب رئيسا لجمعية علماء الهند يوم 11 أغسطس 1973م (18 شعبان 1393هـ).  بعد ما آل أمر الجامعة الإسلامية دارالعلوم ديوبند إلى الإدارة الجديدة عام 1402هـ (1982م) انتخب بعد فترة قليلة عضوًا في مجلسها الاستشاري. وكان عضوا تأسيسيًّا في هيئة الأحوال الشخصية للمسلمين منذ تأسيسها ليوم وفاته. أسّس بديوبند في مستهل نشاطاته الدينية والإسلامية مصرفًا غير ربويّ حقّق ازدهارا كبيرا، وانتشرت فروعه في أرجاء البلاد ولاسيما في غربيّ ولاية “أترابراديش”.

الرحلات والزيارات:
زار رحمه الله تعالى معْظم  ولايات الهند وسافر أيضا إلى كثير من الدول والبلاد الإسلامية وغير الإسلامية، وكان رحمه الله يقوم بأكثر من زيارة إلى بلد أو مدينة داخل الهند أو خارجها، بحيث قالت وسائل الإعلام أكثر من مرة عن سماحته: إنه لا يدانيه أيّ من العلماء والقادة والحكام في الهند وخارجها في كثرة الرحلات والتنقلات. وهذه الزيارات والرحلات كلها تأتي ضمن أغراض دعويّة وإصلاحيّة، ومشاركة في الندوات والمؤتمرات والحفلات ذات الأهداف المتنوّعة.
في عام 1425هـ دعي من قبل المملكة العربية السعودية لحضور مناسبة غسل الكعبة المشرفة، ثم مكث في المملكة لأداء الحج. وخلال إقامته بالمدينة المنورة ألمت به وعكة صحيّة شديدة أدخل إثرها أَحد مستشفياتها، وبعد ما خفّت وطأتها رجع إلى الهند حيث أدخل مستشفى “أبولو” بدهلي الجديدة ، وخرج منه بعد مدة معافى؛ ولكن صحته لم تعد كاملا إلى حالتها الطبيعيّة.

الشيخ أسعد مدني والفرق الضالة في شبه القارة الهندية:
الفرق الضالة المحسوبة على الدين الإسلامي المنحرفة عن الصراط المستقيم، المتأرجحة يمينا أو شمالا كالقاديانية وغيرها، كانت تتوجس من الشيخ أسعد المدني أشد الخوف. كانت هذه الفرق كلها بأشكالها المختلفة تهابه هيبةَ غريبة والسبب في ذلك أن الشيخ رحمه الله تعالى لم يكن يتعب من مهاجمتها بقنابل الأدلة والبراهين في  أوكارها، وبذلك كان يتم التقليل من غلوائها ويحول بينها وبين نشاطاتها الهدامة بين أبناء الأمة المسلمة.
وقد كان رحمه الله تعالى سيفًا مسلولا ضدّ القاديانية – على شاكلة مشايخه السلف من علماء ديوبند – في العهد الأخير ، نظّم لمكافحتها مؤتمرات و ندوات في شتّى المدن والقرى بالهند، وشارك في عدد من المؤتمرات والجلسات التي عقدت في باكستان وبريطانيا، كما عقد في رحاب جامعة ديوبند مؤتمرا كبيرا شارك فيه إلى جانب علماء ودعاة الهند عدد من علماء السعودية وعلى رأسهم معالي الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي، الذي كان في ذلك الوقت مديرا لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، والدكتور عبد الحليم عويس المصري الذي كان آنذاك أستاذا بالجامعة والمساعد الأيمن لمعالي الدكتور التركيّ.
وقام المؤتمرالمذكور عن إنشاء قسم خاصّ بجامعة ديوبند باسم “قسم صيانة ختم النبوة” لمكافحة القاديانية بشكل مستمر ومستقل. وخَرج القسم كثيرا من المؤهلين للعمل في هذا المجال عن ثقة وقوة. كما نَظَّم ولا يزال ينظِّم حفلات وتجمعات لتوعية المسلمين البسطاء الغافلين عن خطر القاديانية، كما يقوم العاملون في القسم بجولات وزيارات للمناطق التي تكثر فيها الدعوات المسمومة إلى القاديانيّة.

الشيخ أسعد مدني رحمه الله وجامعة ديوبند:
لقد قام الشيخ مدني رحمه الله بتأدية دور مشكور في النهوض بجامعة دارالعلوم ديوبند، بعد ما آل أمرها إلى إدارة جديدة، كان فيها ساعده الأيمن أستاذ الأدب العربي وحيد الزمان القاسمي الكيرانوي – رحمه الله – (المتوفى 1415هـ / 1995م) الرئيس المساعد السابق لجامعة ديوبند . وشهدت الجامعة على عهد الإدارة الجديدة – التي كان الشيخ المدني مشرفا عليها وكان الشيخ وحيد الزمان طوال سنوات رائدا أساسيًّا لها – تطوّرات مرموقة بشطريها الإداري والتعليمي، وتقدما في شطرها البنائيّ والعمراني أيضا؛ حيث تمّ إنشاء عدد من المباني الكبيرة والصغيرة بما فيها المسجد الجامع الكبير، التي تعتبر واجهة تقدميّة بارزة للجامعة، وتنطق بالنهضة الواقعية التي حدثت في الجامعة والتي لا تزال مظاهرها في تقدم إلى الأمام.

شطر من خصائصة الذاتية:
امتاز الشيخ أسعد المدني رحمه الله بين معاصريه من العلماء والقادة والدعاة بالجمع بين التحركات السياسيّة وبين الصلاح والتدين؛ وبين الحضور المكثف في الجماهير المسلمة والارتباط معهم وبين الانقطاع إلى التلاوة والعبادة؛ وبين الاجتماع بالساسة والقادة وبين التواصل الرابح مع المشايخ والعلماء والدعاة والمفكرين الإسلاميين؛ وبين حياته كعالم عامل وبين حياته كناشط في الخدمة الاجتماعية والوطنيّة. وهذا عمل صعب للغاية إلاّ على من يحالفه التوفيق ويُوْلَد مجبولاً على التوفيق بين الاهتمامات الصعبة.

وفاته:
يوم السبت 5 نوفمبر 2005م (السبت 2 شوال 1426هـ) كان عائدا من المسجد إلى بيته بديوبند على كرسيّ متنقل فسقط عنه، مما أصاب رأسه جرحا أدّى إلى تحطّم عروق في الدماغ، ونُقِل إلى دهلي فأدخل مساءً مستشفى “أبولو” وبقي فيه مغمى عليه طوال ثلاثة شهور، يزوره كل يوم مئات من الناس من شتى قطاعات المجتمع، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في الساعة السادسة إلاّ 25 دقيقة من مساء يوم الاثنين 7 محرم 1427هـ الموافق 6 فبراير 2006م وقد كان لدى وفاته في 78 عامًا من عمره بالقياس إلى التقويم الميلادي وفي 80 منه بالقياس إلى التقويم الهجري.
ثم حُمِلَ جثمانه من المستشفى إلى مقر الجمعية الكائن بحيّ “آئى، تي، أو” بدهلي الجديدة ؛ حيث حضر كبار الزعماء والقادة من المسلمين وغير المسلمين، وقدّموا التعازي إلى أنجال الفقيد وأخويه والأقارب، وأبدوا غاية حزنهم وأسفهم على وفاته، وعلى رأسهم معالي رئيس الوزراء الهندي “مانموهن سينغ” ورئيسة حزب المؤتمر السيدة “سونيا غاندي” وكبيرة وزراء دهلي السيدة “شيلا ديكشت” والشيخ سيد أحمد بخاري إمام المسجد الجامع الملكي الأثري الكبير.
وفي 7-8/1/1427هـ الموافق 6-7/2/2006م حمل جثمانه من دهلي إلى ديوبند؛ وتمّ إجراءات الغسل والتكفين في بيته “مدني منزل” الملاصق لدارالعلوم ديوبند من جهة “بوّابة مدني”، ثم نقل الجثمان إلى محيط دارالعلوم في نحو الساعة الخامسة من صباح يوم الثلاثاء، حيث زاره خلق لايُحْصى، وصُلِّي عليه إثر صلاة الفجر، وأمّ في الصلاة عليه الشيخ الصالح محمد طلحة السهارنبوري، نجل المحدث الكبير الشيخ محمد زكريا بن يحيى الكاندهلوي رحمه الله (المتوفي والمدفون بالمدينة المنورة عام 1402هـ  1982م)، وذلك في الساعة السابعة والعشرين دقيقة. ووُضِعَ جثمانه في قبره بالمقبرة القاسميّة الجامعيّة بجوار والده العظيم الشيخ العالم العامل المجاهد السيّد حسين أحمد المدني المعروف بـ”شيخ الإسلام” رحمه الله (المتوفى 1377هـ / 1957م). وقد أُغْلِقت جميع المعاهد التعلميليه والمحلات والدكاكين التجارية في ديوبند ذاك اليوم حزنًا على وفاته ومشاركة في الصلاة عليه ودفنه. وقد حضر الصلاة عليه نحو مائة ألف من المشايخ والعلماء والدعاة والزعماء والقادة والوجهاء والجماهير المحتشدة من داخل ديوبند وخارجها من المناطق المجاورة.
استمر توافد الزعماء الحكوميين والسياسيين إلى جانب العلماء والدعاة والمشايخ وعامّة الشعب المسلم من المناطق المجاورة ومن أرجاء الهند إلى ديوبند لمدة أكثر من أسبوع لمشاركة أهله الحزن والألم وتقديم التعازي إليهم، وظلّ الحزن يخيّم على ديوبند، وعلى المناطق المجاورة خصوصًا وعلى الهند عمومًا لنحو أسبوع. جزاه الله خيرًا وأجزل مثوبته وأسكنه فسيح جنّاته.

أثر رحيل الشيخ أسعد على المجتمع المسلم في الهند:
كان الشيخ السيد أسعد المدني رحمه الله عالما وداعية ومصلحًا ممتازًا، وإلى جانب ذلك كان قائدًا محنكا ثابت القدم مدافعًا قويًّا عن المساواة في الحقوق والواجبات الوطنية بين الأقلية والأكثرية، أي بين جميع الطوائف في الهند الواسعة. كان رحمه الله تعالى يتمتع من بين القادة المسلمين المعاصرين لدى الحكام والزعماء الهندوس الممسّكين بزمام الحكم في البلاد، بنفوذ لم يكن نصيب أيّ من القادة المسلمين اليوم.  فكان له ثقل كبير، وكانت كلمته مسموعة، وكان نداؤه محفيًّا به لدى الحكام وقادة البلاد؛ فكان لذلك خير سند للمسلمين في هذه الأيام العصيبة التي ملأ الطائفيون من الهندوس البلادَ كلها كراهية ضد الشعب المسلم، والتي خسرت فيها الأمة المسلمة الهندية القادةَ الذين كانوا من الطراز الأول ممن شهدوا حرب تحرير الهند وساهموا فيها .
كان الشيخ المدني رحمه الله ناطقًا مؤهلا باسم الشعب المسلم لدى الزعماء الهندوس، ولكونه يكسب ودّ عدد وجيه من الزعماء العلمانيين من غير المسلمين، كان يكسب في كثير من المواقف نجاحًا لم يكسبه غيره من القادة المسلمين المستندين إلى مجرد الحماس والعاطفيّة فيما يتعلق باستعادة الحقوق، وتحقيق المطالب، والمطالبة بالمساواة في الحقوق، ومكافحة الاضطرابات الطائفيّة، وإدانة المفجرين لها، ومساعدة المتضررين منها، وما إلى ذلك.
ولذلك كان يقود رحمه الله تعالى – كلما تمسّ الحاجةُ – مسيرات احتجاجات وحركات ذات العدد التي لا تحصى في دهلي وفي غير دهلي. وكان يضغط بذلك على الحكومة والزعماء المعنيين ضعطاً مثمرا، ويحقق المطالب المنشودة للمسلمين.
وبوفاته رحمه الله شعر المسلمون حقًّا بخسارة لا تُعَوَّض، ولا سيّما فيما يتعلق بالدفاع عن قضايا الشعب المسلم الهندي والمطالبة بحقوقهم التي هُضِمَت أو أُعْطِيت منقوصة أو مخدوشة، وأيضا فيما يتعلق بالوقوف بقوة وضغط بالغين بجانب القضايا الإسلامية في كل مكان. فقد كان يتمتع بحكمة عملية وتعقّل قياديّ ينقصان غيره من القادة المسلمين الهنود المعاصرين. ومن هنا لا يوجد بينهم من يشقّ غباره أو يدانيه في القيادة الناجحة بالمجموع. على حين إنّه لم يكن مجردَ قائد سياسيّ ، وإنما كان في الحقيقةً عالما داعية مربّيا مصلحا، وشيخا له عدد واسع من المريدين في أرجاء البلاد، وكان قوّاما صوّاما، مواظبا على صلاة الليل، وكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان من غيرانقطاع، فكان يعتكف معه في جامع دارالعلوم ديوبند مئات من الناس كانوا يتوافدون إلى ديوبند خصيصا لذلك.
وكان له حبّ متجذّر في قلوب الشعب المسلم الهندي ولا سيما في المنطقة الغربية الواسعة من ولاية “أترابراديش”. كما كانوا يحبون والده العظيم الشيخ الكبير المجاهد السيد حسين أحمد المدني رحمه الله.
وكان للشيخ مدني رحمه الله تعالى نفوذ كبير في المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية في شبه القارة الهنديّة؛ ومن هنا حزنت عليه حزنا جمًّا لم تحزن مثله على عالم وداعية مات في العصر الأخير. لأنّه كان دائم التواصل معها، يعايش قضاياها، ويحلّ مُعقَّداتها، ويطالب الحكومة دائما بعدم المساس بها، وينادي ضد الطائفيين من الهندوس الذين يهتفون ضدّها ويشوّهون سمعتها، ويصفونها بأنها مقر للإرهابية ومحضن لتفريخ الإرهابيين.
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.