- سني أون لاین - https://sunnionline.us/arabic -

نظرة إلى حياة العالم الجليل “ملا عبد الهادي أفخم زاده” رحمه الله

ضمن سلسلة تراجم العلماء والشخصيات المعاصرين لأهل السنة في إيران، نبدأ بترجمة نجم آخر من النجوم الساطعة في سماء الخدمة والتضحية والنشاط في سبيل الدين، وهو فضيلة الشيخ “ملا عبد الهادي أفخم زاده” رحمه الله، الذي ظل لنصف قرن رائدا لطرح كثير من المسائل الإسلامية في كردستان، وقدم جهودا ومساعي كبيرة لمحبي العلم والفضيلة، فجزاه الله خير الجزاء عن الإسلام والمسلمين.

المولد وطلبه للعلم:

ولد ملا عبد الهادي أفخم زاده في 1328 من الهجرة النبوية في أسرة متدينة ملتزمة، قبيل الحرب العالمية الأولى. ولقد صادفت طفولته فترة الحوادث للحرب العالمية الأولى وتبعاتها من التدمير والقحط في العالم.
بدأ دراسته وطلبه للعلوم الشرعية رغم مخالفة الأهل. وصار هذا الطلب للعلم والدراسة أكثر جدية عندما تلمذ على الشيخين الأخوين القزلجي “ملا محمد” و”ملا أحمد” في مهاباد. تسبب الحوادث والملابسات في  تعطيل مدرسة “القزلجية” وتشريد الأستاذ “قزلجي” وهجرته إلى العراق، والطالب الشاب أيضا سافر طلبا للعلم إلى مدن وقرى كردستان العراق، وفي هذا العهد نشأت فيه روح الانتقاد. وقد درس رحمه الله على أساتذة كثيرين في هذه المدة أشار إلى بعضهم في ذكرياته، كـ”الشيخ محمد محسن قاضي مكري”، و”الملا سيد حسين طاهر بوغه اي”، “والملا محمد الأيوبي”، “والملا سيد حسين”، “والملا عبد الوهاب”، “والملا أحمد ترجاني زاده”، “والملا محمد فشدري” في مسجد سيد نظام في مهاباد، “والملا سيد علي”، “والملا سيد علاء الدين حسيني”، “وباوه ملا” في قرية قلندر، “والقاضي شريف الحنفي” في إشنوية، “والملا عصام الدين شفيعي”، “والملا عبد الحميد” في كركوك، “والأستاذ ملا محمد قزلجي” في بغداد.

رحلته لطلب العلم:

يدفع الشوق الزائد هذا الطالب الشاب إلى السفر إلى نواحي أخرى من العراق وزيارة جديدة مع الأستاذ القزلجي. الإقامة في العراق والتلمذ على الأستاذ القزلجي، وكذلك الجولات والبحوث والمطالعات المستمرة والطويلة في كتاتيب العراق، والعمل في المطبعة ومطالعة الجرائد والصحف في بغداد، وزيارة الشيخ أمجد الزهاوي حفيد الشيخ الزهاوي من أحباب وزملاء الشيخ قزلجي والتعرف عليه، تعتبر من أقوى أسباب النضج والرشد الفكري في هذا الطالب الشاب خلال طلبه للعلوم.
إن كان في ذلك العصر المتفكرون الأكراد يميلون نحو الأفكارالقومية، لكن مشاعره الوطنية كانت دائما متأثرة من الدوافع المذهبية والدينية، حيث انتقد بشدة في مقالة له في مدينة بغداد خلو الحجرات التقليدية من الطلبة الشرعيين وتدهورالأوضاع التعليمية وأراد نشرها في الجرائد، لكن منعه أستاذه من نشر هذه المقالة.
من نشاطاته التي قام بها في ذلك الوقت وفترة إقامته في العراق بإشارة أستاذه، هي المقالات التي كتبها ردا على مدعي النبوة “ميرزا غلام أحمد قادياني” الذي أتى إلى العراق.

العودة إلى الوطن والأهل:

عاد الأستاذ رحمه الله عندما كان بلغ ما بلغ من الازدهار والتفوق العلمي إلى الوطن، وكانت عودته إلى الوطن مصادفة مع  جلوس “رضا خان” على كرسي الحكم  في إيران، حيث تعرضت ثقافة الأكراد الوطنية والمذهبية للخطر في إيران، ومضي مدة في الأسر في “مهاباد”، ثم قضى سنوات في خدمة العلم (الخدمة العسكرية) إلى سنة 1360 من الهجرة. وبعد خدمة العلم قام بالزواج والتدريس، وظهر للجميع نبوغه وفضله. ثم سافر إلى قرية “سرا” بدعوة من كبير هذه القرية، وكانت له علاقات ودية مع قاضي محمد والشاعر الوطني سيد محمد أمين برزنجي المشهور بـ”خاله مين”، وكذلك كانت له لقاءات وزيارات مع سائر المتفكرين والرؤساء الوطنيين كالشيخ عبد الرحمن شرفكندي، وسين حزني والأستاذ قانع الشاعر الوطني. لكن تم إبعاده بسبب مخالفاته مع الشيوعيين وغارات بعض القبائل على قرية  “سرا”.
ثم عاد رحمه الله من جديد إلى قرية “سرا” وأقام فيها لمدة أكثر من عشرين سنة، وكانت هذه الفترة من أهم وأثمر جوانب حياته، وتعود أهمية هذه الفترة في أن تيار الفكر الإصلاحي الإسلامي يظهر في ساحة  كردستان. ومن الناحية الجغرافية تقع قرية “سرا” في وسط المناطق الكردية وبذلك كانت تتمتع هذه القرية بمركزية لانتشار نور الإسلام وأضواء القرآن الكريم ونسمات الربيع الإسلامي في شمال وجنوب كردستان. تصل سمعة “ملا عبد الهادي” إلى أقصى نواحي كردستان ويربي في هذه المدة تلامذة كثيرين ويقوم بتأليف كتب عديدة تثير انتقادات البعض وإشادات الآخرين. وتؤثر فكرته شيئا فشيئا على المجتمع ويجد أفكاره وطريقته من  يتبناها ويسلكها.
مع أن حركة الشيخ رحمه الله تعالى كانت حركة ثقافية بعيدة عن السياسة، لكن تم استدعائه مرات من قبل مخابرات نظام الشاه “ساواك” بسبب كراهيته التقرب من الحكومة، خاصة عندما ألف كتابا ردا على النصرانية وعلى نشاطات التبشير في غرب البلاد. وعندما كتب رسالة “الإعلام والإرشاد” واطلعت عليها المخابرات الإيرانية “ساواك” في ذلك الوقت.
كان رحمه الله رجح النشاط الديني والإقامة في قرية “سرا” على إمامة الجمعة في مدينتي “سقز” و”مهاباد” أو تولي كرسي التدريس في جامعة تبريز أو طهران. لكنه يضطر في النهاية بدلائل مختلفة كضعف رغبة الطلبة في حصول العلم وضغوط الحكومة لتقبل رئاسة “غرفة الانصاف والتبليغ المذهبي”، أن يغادر سنة 1389 قرية “سرا” إلى مدينة “بوكان”. تقل نشاطات الأستاذ رحمه الله تعالى في “بوكان” بناء على كهولة السن ومضايقات علماء السلطان في “بوكان”، لكنه في هذه المرة إضافة إلى جهاده السابق ضد التحجر والجمود في المجتمع المذهبي، اهتم أيضا إلى مكافحة هجوم الأفكار المادية والأخلاق والتقاليد الغربية كالسفور وشرب الخمور والتجملات وغيرها من المفاسد.
في السنة الأولى من إقامته في بوكان، نقل ما يزيد من ستة عشر كتابا أدبيا دينيا وتاريخيا في المراحل الجامعية المختلفة من العربية إلى الفارسية.
مع الأسف تعطل حلقات دروسه الدينية ونشاطاته الدعوية والتربوية من جانب الجهال وعلماء السلطان. وفي هذه المدة أيضا تشرف لزيارة بيت الله تعالى.
صادفت الثورة ضد الشاه كهولته في السن وعدم القدرة في الأعمال العلمية والبحوث وعدم القوة الجسمية والاضطرابات النفسية إلى أن ابتلي رحمه الله بسكتة دماغية سنة 1405 وأفقد بذلك قوة التدريس والمطالعة كاملا. وانتقل إلى رحمة الله سنة 1414عن 86 سنة من عمره في مدينة “بوكان”.

التجديد ومكافحة البدع:
من نشاطاته الإصلاحية، يشتهر الشيخ رحمه الله في كردستان بأعماله الإصلاحية في المجالات المختلفة من التصنيف ومكافحة البدع والخرافات وأهم نشاطاته وأبرزها كالتالي:
1- التطرق إلى التضنيف والتأليف منذ أن كان طالبا إلى أن أفقدت يداه قوة الكتابة. مع ذلك لم يغفل عن تقييد المقتبسات عند المطالعة والكتابة.
2- الاهتمام إلى الشباب والأطفال، والتركيز على تربيتهم بكتابة الأشعار والأناشيد الخاصة لهم.
3- محاولة بيان تعاليم الدين بكل بساطة ويسر لكي يفهمها كافة طبقات الشعب.
4- تغيير النظام التعليمي السائد بين الطلبة، واتخاذ نظام يربي علماء مطلعين عارفين بأصول الدين والقرآن الكريم، بدل طلبة عارفين باللغة العربية. ولتأخذ العلوم العالية التي هي فهم القرآن الكريم والسنة مكانة أعلى و أفضل من العلوم الآلية كالصرف والنحو والبلاغة.
5- تخطيط برنامج علمي وتربوي للطلبة، وإلزامهم بحفظ القرآن الكريم والحديث والاهتمام العملي بالسنن والعبادات.
6- نهي القرويين من المنكرات والخرافات في حفلات التعزية والأفراح.
7- التعريف بصورة الإسلام الحقيقية البعيدة عن الخرافات والتعصبات المذهبية والطائفية في الخطب والكتب.
8-  الحديث والكتابة عن العدالة الاجتماعية والحرية وحقوق الناس.
9- الاهتمام إلى النسوة والتأسف على جهالتهن بالنسبة إلى مسائلهن وحقوقهن.
10- المعرفة الواسعة بالنسبة إلى المذاهب المختلفة الإسلامية والفرق الضالة كالبهائية والنصرانية.

الخصائص والأخلاق:
الخصائص الذاتية والأخلاقية من أبرز خصائص الدعاة والمصلحين التي لها أثر قوي ومستمر في حركة دعوتهم وإصلاحهم. لقد كان رحمه الله يعتقد أن المصلح الحقيقي والإنسان الكامل هو الذي يكون قلبه طاهرا وأعماله صالحة.
من أهم الخصائص الأخلاقية لهذا العالم الرباني:
1- إيمانه العميق القوي بأصول الدين والمسلمات.
2-  بيان الحق، والجرأة على التصريح بالعقائد أمام المسئولين والرؤساء.
3-  الاهتمام إلى العبادات بحيث لم تفته الجماعة للصلاة عندما كان في خدمة العلم.
4- الهمة العالية والقناعة وعدم الاتكاء على الغير في شئونه المالية و الاقتصادية.
5- الاجتناب والابتعاد من الرياء والشهرة.
6- الابتعاد عن التقرب إلى السلطان والتنعم.
7- الاهتمام إلى تنظيم الوقت والزمان.
8- التواضع. كان يتطرق رحمه الله إلى تعليم الأطفال من دون أن يرى ذلك عارا لنفسه أو تضييعا لوقته الغالي.
9- الشفقة بالنسبة إلى مخالفيه والانصاف في حقهم، فكان رحمه الله يدرسهم دون النظر في تبعاته، وكان يعلمهم الدلائل التي كان من الممكن أن يستمسكوا بها ضده، وكان ذلك نتيجة همته العالية.
10- الصبر على المصائب كالفقر، وسماع ما يتهمونه به حاسدوه بهتانا وزورا، وقد صبر صبرا لا مثيل له على وفاة ثلاث من أولاده في شبابه، والمرض الطويل في آخر عمره.

المؤلفات والكتب:
كما ذكرنا سابقا أن الشيخ رحمه الله كان مهتما منذ أن كان طالبا بالتأليف والترجمة، لذلك ترك مجموعة لا بأس بها من الكتب المؤلفة والمترجمة باللغات الثلاث العربية والكردية والفارسية. ومن أهم كتبه المؤلفة:
1- الخطب الدينية باللغة الكردية، إسمها “ئاموجكاري بورزجاري”.
2- العقيدة الدينية للأطفال، “عه قيده ي ديني بو منالان”.
3- أحكام النساء (باللغة الفارسية).
4- فرايض أفخم زاده في الميراث (الفارسي).
5- مناسك الحج (باللغة الفارسية).
6- رسالة الإعلام والإرشاد باللغة العربية.
7- ترجمة حياة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.

وللشيخ رحمه الله مؤلفات عديدة لم تطبع، منها:
1- رسالة في الرد على النصرانية.
2- بيان الحق في إرشاد الحق.
وعدد آخر من الكتب.
إضافة إلى هذه التراجم، قام فضيلته أيضا بترجمة العديد من الكتب من العربية إلى الفارسية، وترجمة أجزاء من كتاب إحياء العلوم للإمام الغزالي رحمه الله، وترجمة تاريخ الأدب العربي لحنا الفاخوري، وترجمة التصوف في الإسلام لعمر فروخ، وعدد آخر من الكتب والمقالات.

الوفاة:
توفي العالم الجليل والداعي الكبير ورائد الصحوة الدينية في منطقة كردستان، الشيخ العالم “ملا عبد الهادي أفخم زاده” مساء الثلاثاء 18 من ربيع الثاني عام 1414 من الهجرة، بعد معاناة كبيرة من المرض، عن عمر يناهز 86 عاما.
رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه.