- سني أون لاین - http://sunnionline.us/arabic -

تفسير آية 62 إلى 66 من سورة البقرة

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٦٢﴾

التفسير المختصر
قد يخطر ببال أحد من السامعين بعد بيان تمرد اليهود على الله وجرائمهم، أنه لن يقبل إيمان أحد منهم عند الله، وإن آمن بالله وتاب عن معاصيه وخطيئاته. فذكر الله تعالى ردا على هذه الشبهة، ضابطة أخرى، قائلا:
{إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنّصارى والصّبئين من آمن بالله} بذاته وصفاته، {واليوم الآخر وعمل صالحاً} موافقا للشريعة {فلهم أجرهم عند ربّهم ولاخوف عليهم ولاهم يحزنون}.

فائدة:
فالضابطة عند الله هو الإيمان والعمل، أو الاعتقاد والطاعة، فمن صحت عقيدته، وحسن عمله، فهو مقبول عند الله يشكر سعيه. ومن البديهي أنّه لا اعتبار لأيّ طاعة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلا في اتباعه، فمن آمن بالله ورسوله وأسلم، يغفر له ويستحق دخول الجنة.
قوله :{الصابئين}:
الصابئين: هم طائفة لا يعلم معتقداتهم، واضطربت أقوال أهل العلم فيهم. والله أعلم.
الضابطة الكلية تشمل المسلمين، فلم تكن حاجة إلى إفرادهم بالذكر؛ لأنهم یؤمنون بالله واليوم الآخر، لكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبين أهمية الإيمان والعمل حتی يعلم الجميع أن مدار النجاة في الآخرة على الإيمان والعمل الصالح؛ فمن آمن بالله وأطاعه يدخله في رحمته.

***********

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿٦٣﴾

التفسير المختصر
{واذ أخذنا ميثاقكم} للعمل على التوراة{ورفعنا فوقكم الطور}لأجل أخذ هذا الميثاق وقلنا لكم: {خذوا ما آتينكم بقوة واذكروا ما فيه}هذا الكتاب {لعلكم تتقون}.

فائدة:
لمّا أوتي موسی عليه الصلاة والسلام التوراة، قدم إلى قومه وعرض التوراة عليهم وقرأها لهم، فوجدوا ما أمروا به عسيراً، فقالوا: لا نؤمن به حتى نسمع كلام الله؛ فاختار سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام سبعين رجلاً منهم، وذهب بهم إلی الطور. فلّما رجعوا إلى قومهم، شهدوا أن هذا كلام الله، لكن أضافوا من عند أنفسهم: إنّ الله قال لنا اعملوا بما فيه ما استطعتم العمل، وإن عجزتم عن العمل أو قصرتم فيه فيغفر الله لكم ولا يؤاخذكم به. قال القوم: إننا لا نقدر على العمل بما فيه من الأحكام؛ فأمر الله سبحانه وتعالى الملائكة أن يرفعوا فوقهم الطور حتى يخافوا ويقبلوا.

شبهة وجوابها:
وهنا شبهة يمكن أن تعتري بعض الأذهان، وذلك أن الدين لا إكراه فيه، فلماذا أكره بنو إسرائيل برفع الطور فوقهم كما ورد في القرآن الكريم؟ فالجواب عن هذه الشبهة، أنهم كانوا مختارين في قبول الإيمان في البداية، فلما آمنوا وأسلموا عن طوع فلم يجز لهم أن يرتدوا عن الايمان؛ لأن المخالفة بعد القبول والاستسلام، بمنزلة البغي والطغيان، وإن البغاة في كل حكومة يعاقبون أشد العقاب؛ ومن ثمّ ترى المرتد يقتل بردّته، ولكن الكافر لا يقتل بكفره.

***

ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴿٦٤﴾

التفسير المختصر
{ثم توليتم من بعد ذلك} الميثاق، {فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخسرين}فكان مقتضى نقض هذا العهد أن تهلكوا جميعا، لكنها كانت عناية الله الخاصة بكم ورحمته الشاملة عليكم حيث أمهلكم لإنهاء هذه الحياة المجازية، وإن كنتم تبتلون بوبال الأعمال بعد الموت.

فائدة:
إن رحمة الله العامّة تشمل المؤمن والكافر في الدنيا، ويظهر أثرها متمثلا في صورة العافية والراحة في حياة الناس، أمّا الرحمة الخاصة إنما يظهر أثرها يوم القيامة في صورة النجاة من عذاب الله والقرب إليه. والظاهر من قوله تعالى {فلولافضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين} أن الخطاب موجه إلى اليهود الذين كانوا يعيشون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ومن البديهي أن الذي لم يؤمن بالنبي صلي الله عليه وسلم فقد نقض العهد. فاليهود الذين لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم نقضوا العهد؛ لكن الله تعالى بفضله ورحمته لم ينزل العذاب عليهم مثل ما أنزله على غيرهم ممن نقضوا العهود.
لقد ثبت من الأحاديث أن عدم نزول العذاب كان ببركة وجود النبي صلى الله عليه وسلم. كما قال الله تعالى:{ما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم}، لذلك ذهب طائفة من المفسرين أن المراد بالفضل والرحمة هو بعثة النبي صلی الله عليه وسلم، والقصة التي ذكرت في الآيات التالية أيضا تؤيد هذا المعنى. والله أعلم.

***

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴿٦٥﴾ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴿٦٦﴾

التفسير المختصر
{ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت}خرجوا عن حدود الشريعة وخالفوا الحكم الذي أمروا بالتزامه بأن لا يصيدوا السمك يوم السبت. {فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين}مبعدين. أمر تكوين وتسخير، فصاروا ممسوخين في أشكال القردة، {فجعلنا ها نكالاً}عبرة {لما بين يديها ما خلفها وموعظة للمتقين} سبب موعظة المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

فائدة:
هذه القصة لحادث وقع في زمن داوود عليه السلام. كان يوم السبت يوم العبادة لبني إسرائيل، وكانوا منعوا من اصطياد الحيتان فيه، وكانوا يسكنون في شاطئ البحر، ويحبون الاصطياد جدا، فلم يمتثلوا أمر الله، وعصوا الرسول فاصطادوا؛ فأنزل الله تعالى عليهم العذاب بمسخ وجوههم، فماتوا بعد ثلاثة أيام.
فالذين شهدوا هذه القصة أو سمعوها كانوا فئتين؛ فئة مطيعة وفئة عاصية. فصارت القصة سبباً لتوبة العصاة، فاعتبروا وتابوا، وهذا ما عبّر عنه بالنكال، وأما الفئة المطيعة فأخذت درساً مما وقع بمرأی ومسمع منهم، فاستقاموا على الطريقة واتعظوا، فصارت القصة موعظة لهم، فعبّر الله تعالى عن ذلك بقوله {وموعظة للمتقين}.

فقه الحياة أو الأحكام:
تحريم الحيلة المؤدّية إلى بطلان الحكم الشرعي:
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية اعتداء اليهود الذي كان سبب تعذيبهم إن اليهود لم يكونوا يخالفون الحكم الشرعي بصراحة، بل كانوا يتخذون حيلا تؤدي إلی بطلان الحكم الشرعي، فلما علموا أن الله نهاهم عن الصيد يوم السبت، احتالوا لصيد الحيتان، فنصبوا لها حبائل وحفروا حياضا قبل يوم السبت، فلما جاءت الحيتان يوم السبت على عادتها، تعلقت بتلك الحبائل فلم تخلص منها، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت. فكانت هذه الحيل استهزاء بالحكم الشرعي وإبطالا له، فغضب الله عليهم، وعاقبهم بالمسخ.

الحيلة الجائزة:
الشريعة الإسلامية لم تحرم كل حيلة، وإنما حرمت الحيل التي تؤدي إلى تعطيل الأحكام الشرعية وإبطالها؛ لأن النبي صلی الله عليه وسلم استخدم بعض الحيل، كما ورد في الحديث عن بيع التمر الردئ مقابل الجيد”بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا” (الموطأ للإمام مالك رحمه الله تعالى).
ففي مثل هذه المواضع، ليس المقصود إبطال الحكم الشرعي، ولا يقع ذلك أيضا، بل الهدف هو امتثال حكم الله تعالى.كذلك بيّن بعض الفقهاء طرقا لاجتناب الحرام في بعض المسائل؛ ومن الخطأ الخلط بين هذه الطرق وبين حيل اليهود.

قصّة المسخ:
قال الإمام القرطبي في تفسيره: ثمّ تطرّق الناس حين رأوا من صنع لا يبتلى، حتى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده. فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت. ويقال: إن الناهين قالوا: لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار. فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا، فعلوا على الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب ودخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولا يعرف الإنس أنسابهم من القردة، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس فتشمّ ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم! فتقول برأسها نعم. قال قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم. (تفسير القرطبي ج1، ص 440)

الممسوخ لا ينسل:
هل ينسل الممسوخ؟ الراجح ما روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عباس، قال: فقال رجل: يا رسول الله القردة والخنازير، هي مما مسخ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:”إن الله عز وجل لم يهلك قوما، أو يعذب قوما، فيجعل لهم نسلا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك”، (وهي الآن موجودة أيضا، فلا علاقة لها بالأقوام الممسوخة).