- سني أون لاین - http://sunnionline.us/arabic -

رحيل السيد النبيل المحدث الجليل مولانا محمد يوسف رحمه الله

فوجئنا وفوجئت الأمة الإسلامية برحيل السيد النبيل صاحب الخلق الجميل، العلامة الجليل مولانا السيد محمد يوسف حسين بور -رحمه الله- في الشهر المنصرم. اهتز الجميع بهذا النبأ المؤلم، ووقعوا في حزن وحيرة، كأن صاعقة نزلت بالأوساط العلمية وبالمؤمنين جميعا سيما في هذه الديار وما جاورها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
إن الموت حق وكل نفس ذائقته ولكن موت وموت، وموت دون موت، وصدق من قال:
وما كان قيس هلكه هلك واحد/ ولكن بنيان قوم تهدّما
ويقال إن موت العالم موت العالم، ولا ريب أن العالم الذي سبب حياة أمة فموته ورحيله يكون موت تلك الأمة يتفق أهل العلم والوعي في ديارنا أن شيخنا الراحل كان آية من آيات الله، وكان من الذين إذا رؤوا ذكر الله وإذا ذكروا ذكر الله، لقد منّ الله علينا وعلى المؤمنين في بلادنا إذ قيض فينا رجلا من سليل بيت النبوة فوفقه لتحصيل العلوم الدينية والارتشاف من مناهله العذبة والاتصال بكبار العلماء والراسخين في العلم في القرن العشرين وزيّنه بالخلق الجميل والعمل الصالح وجعله نموذجا في التقوى والزهد والتقشف والتواضع وقدوة في المجاهدة والتربية وتحمل المشاق في سبيل الله تعليما وتزكية ودعوة وإصلاحا بين الناس، وإحياء لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد كان الشيخ من أفذاذ الرجال الذين قلما يجود الزمان بأمثالهم، كان من أمثل وأحب تلاميذ الشيخ المبجل كبير المحدثين في عصره مولانا السيد محمد يوسف البنوري مؤسس جامعة العلوم الإسلامية بكراتشي باكستان والشيخ السيد عبدالواحد غشتي مؤسس معهد عين العلوم بغشت، وشيخ الحديث عبدالخالق الملتاني، والشيخ عبد الله درخواستي، والشيخ المفتي محمود، الشيخ عبد الرشيد النعماني، والشيخ إشفاق الرحمن الكاندهلوي رحمهم الله وغيرهم.
كان الشيخ محمد يوسف معجبا بشيخه مولانا السيد البنوري كلما ذكره أو ذكرناه لديه تغير صوته وقد تذرف دموعه فيذكر صفاته بحب وغرام وهو الذي ساعد شيخه في تأسيس جامعة العلوم الإسلامية وباشارته وأمره رجع إلى بلوشستان وتولى إدارة جامعة عين العلوم بغشت التي أسسها العارف الشهير والداعية الكبير مولانا السيد عبدالواحد الغشتي تلميذ المفسر العظيم مولانا حسين علي رحمة الله عليه صاحب الأسلوب الخاص في التفسير.
ولم يكن آنذاك أي معهد ديني يخرج الرجال في علم الحديث وكان الطلاب يقصدون باكستان وأفغانستان لإكمال دراساتهم. فالشيخ هو أول من قام بتدريس الحديث وتخريج العلماء ثم تلاه آخرون.
كان صاحب ابتكار وفكرة سليمة يزعجه التبعثر والفوضى في الأمور سيما الفوضى في الشئون التعليمية والتربوية فقام بتأسيس اتحاد المعاهد والمدارس الدينية. يريد تنسيق الجهود وتوحيد النظام الدراسي وتطوير المعاهد، حسب حاجة العصر الحديث. فبذل جهودا جبارة بهذا الشأن وسافر إلى المناطق النائية ودعا العلماء وجمعهم في غشت فاجتمعوا واختاروه سيدا وقائدا لهم وقبلوا اقتراحاته ورحبوا بآرائه القيمة. فلم تنحصر جهوده في جامعة عين العلوم فحسب بل عم فيضه البلاد كلها، فتقدمت المعاهد وتطورت المناهج إلى حد كبير في ظل تفكيره وإشرافه. كان سيدنا الراحل ذا فكرة نيرة ورحابة صدر، يرحب بكل جديد نافع ويؤكد على قديم صالح كان له معرفة بحاجات العصر ومتطلبات الزمان وكان خير مثال للجمع بين الأصالة والمعاصرة وما أصعب الجمع بينهما، إلا لمن وفقه الله واختاره لخدمة دينه.
وقد أثرى بجهوده التأليفية المكتبات الإسلامية وترك آثارا خالدة من أهمها كتب مترجمة إلى اللغة الفارسية: أنوار الباري شرح صحيح البخاري للعلامة بجنوري، وتفسير معارف القرآن للعلامة المفتي محمد شفيع العثماني، وحجة الله البالغة للإمام الشاه ولي الله الدهلوي.
ولم يكتف الشيخ بأمور الدراسة وشئون التعليم والأعمال التأليفية فحسب، بل كان يهتم بأوضاع المسلمين السياسية والاجتماعية فهو في المدرسة مدرس ناجح وفي حلقات العلم باحث نشيط وفي المزرعة يبدو كفلاّح نشيط وفي المجتمع رجل اجتماعي وخبير سياسي له بصيرة بما يجري في البلاد، يتابع الأوضاع ويتدخل حيث يرى التدخل واجبا ونافعا للمسلمين ولأجل هذا وثق به سماحة الشيخ عبدالعزيز رحمة الله مؤسس دار العلوم زاهدان واختاره مستشارا له في بداية الثورة الإسلامية الإيرانية عند تدوين الدستور، كما كان يعيره اهتماما بالغا ويحبه ويكرمه كثيرا، ويقدمه على كثير من أهل العلم. وبعد وفاته ساند خليفته سماحة الشيخ عبد الحميد ووطد صلته به ولم يتركه في المنشط والمكره وناصره في كل موقف، جزاه الله خيرا.
سمعت عن سيدنا الراحل في زمن الدراسة عندما كنت طالبا بدار العلوم كراتشي وكنت أتمنى لقائه وزيارته فلما تشرفت بزيارته تداعى لي قول الشاعر:
كانت مساءلة الركبان تخبرني/عن جعفر بن فلاح أطيب الخبر/حتى التقينا فلا واللّه ما سمعتْ/ أذني بأحسن مما قد رأى بصري.
نعم وجدته أحسن بكثير مما سمعت وكلما مر الزمان ازددت حبا وتعظيما له وكان يشفق على هذا العبد الضعيف بل هكذا كان دأبه مع الجميع فكل يظن أنه يحبه، يؤاسي الجميع ويحترق قلبه لأوضاع المسلمين الراهنة، يكرم الصغار مثل الكبار، لما توفي ولدي أويس -غفر الله له- قبل عامين، فإذا بالشيخ قد حضر الجنازة مع كبر سنة وكثرة أشغاله، وانحراف صحته، فصلّى على ولدي وعزاني وواساني فجزاه الله خيرا.
كنا ننتظر قدومه إلى زاهدان بفارغ الصبر فإذا علمنا أنه قدم أو رأيناه فرحنا بقدومه كأن المدينة تنورت به في أعيننا، كان لقاءه يثلج الصدور ويزيل الهموم ويزيد الإنسان همة ونشاطا، كان يحبه الجميع لأنه كان يحب الله ويحب خلقه ويرحمهم، ويفكر لإصلاحهم ويسعى لأجلهم. عاش عيشة الزهد والتقشف وبعيدا عن زخارف الدنيا وبريقها ولمعانها.
تشرفت بزيارته قبل أسبوع من رحيله في بيته في غشت فأكرمنا وسقانا زمزم وسأل عن أحوال الشيخ عبد الحميد وعن الأوضاع السياسية ثم دعا لنا بالفوز والنجاح فودعناه ولم ندر أنه آخر عهدنا معه في هذه الدار الفانية وكنا نرجو أن نتمتع بحياته المباركة مزيدا من الزمن ونستفيد من بركات علومه ولكن استأثرت به رحمة الله عزوجل وإننا إذا يشق علينا فراقه نرضى بقضاء الله وقدره وإننا بفراقه لمحزونون ولكن لا نقول إلا ما يرضى ربنا به.
وقد سار خبر وفاته بين الناس سريان النار في الهشيم فشيعه حشد كبير من أبناء البلد لم تشهد البلاد له نظيرا وهذا إن دل على شيء فإنما على أن الله وضع له القبول في الأرض وجعل محبته في قلوب المسلمين ولقد صدقت فيه مقولة الإمام أحمد بن حنبل لأهل البدع: “بيننا وبينكم الجنائز”.
وإننا إذ نشيد بجهوده وخدماته نعزي أنجاله وذويه سيما أخانا المكرم السيد الشيخ عبد الكريم خليفته بعده وأساتذة عين العلوم وطلابها ونخص بالتعزية فضيلة الشيخ محمد دهقان الذي كان صاحب سره ورفيق سفره أكثر الأوقات، ونسأل الله سبحانه أن يلهمنا وإياهم الصبر والسلوان ويملأ الفراغ الذي حدث برحيله بفضله ورحمته ويسدد خطا خلفائه وأصحابه ويوفقهم لمواصلة طريقه ونهجه وهو المستعان وعليه التكلان.
اللهم اغفر له وارحمه وعافه، وأكرم نزله وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله، اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره.

المصدر: مجلة “الصحوة الإسلامية” الصادرة شهريا من جامعة دار العلوم بزاهدان-إيران (العدد الـ 107)