- سني أون لاین - http://sunnionline.us/arabic -

تكسّرت النِصال على النِصال!

قد ييأس المرء من الحياة وما فيها بتاتا، في ظلال تتواتر الأنباء المفجعة التي تفطّر الفؤاد، والرزايا والكوارث التي تتلاحق من غير تريث، ولا يرى أي شيء هنا ليرجح البقاء لأجله، إلا بعض الأشخاص الأثيرين الفاضلين الذين يحبهم، ويأنس بهم في هذه الدار الفانية، ويعزّي نفسه المرهقة، بوجودهم المبارك، عند تتابع الهموم ونزول الكوارث والرزايا، فيجد دليلا على البقاء ولو ضئيلا، كلما يفكر في هؤلاء الأناس الطيبين الرائعين، الذين يعيشون بشكل آخر، ويخيّل إليه أنهم من سلالة أخرى، غير السلالة التي تشكّل عامة الناس، لطيب سريرتهم، وصفاء سيرتهم، وبسبب الميزات التي تتوفر فيهم وتميزهم عن قائمة الأناس الآخرين، حيث تتغير الدينا ولا يتغير هؤلاء، وكأنهم لا يعيشون لأنفسهم، بل يعيشون للمجتمع والأمة والبشرية جمعاء، كلما يراهم المرء، ينسى جميع ما يعكّر صفوه، ويطمئنّ بأن العالم يشمّ منه الخير، ما دام يضمّ هؤلاء الطيبين، إلا أن الدهر الغدّار لا يرضى لنا بهذه الفرحة البسيطة في تقاطر سهام البلايا والمنغصات التي يطلقها بوابل، فيستهدف بسهمه المصيب هؤلاء أيضا، وينهبهم ويختلسهم من على وجه الأرض، كي لا يبق دليل على استمرار العيش، وتتراكم الرزايا والعواصف والنكبات، ثم يواصل هذا المنهج التجبري، إلى أن يعوّد المرء على نزول المصائب والمصاعب، حتى يعود لا يعبأ بها، ولا ينفعل معها، فالرزيئة تنزل على الرزيئة، والمصيبة تلاحق أختها، وتأتي الأخرى قبل طيّ ملف الأولى، فالنصال على النصال، والرمح على الرمح، والإنسان في بحر هذه الكوارث والنوازل، كأن فطرته تتغير، وكيانه يتطور، وكجلمود صخر حطه السيل من عل، فلا يشعر بالألم، ولا يتألم عند المواجهة بهذه الأخطار، لما أن المصيبة تأتي على المصيبة، والكارثة تتبع الكارثة فتدفعها، من غير أن يشعر الإنسان، كالذي أصابته رماح عديدة، وشقّت جسمه واستقرت فيه، والرماح الأخرى التي تأتي فتصادم الموجودة، فتتكسر، ويجهض بعضها بعضا، من غير أن يشعر المصاب!
إن الشيخ مولانا شهاب الدين شهيدي -رحمه الله- كان من هؤلاء الشخصيات البارزة، في علمه، وفقهه، وفهمه، وزهده، وتواضعه، وتقواه، وخشوعه، وفكره، وسلوكه – وبغير شك خسرت خراسان برحيله شمسا، كما أن إيران والمنطقة قد خسرتا عالما عاملا ومفكرا صالحا ربانيا، هكذا نحسبه والله هو حسيبه- ومن رآه في المرة الأولى، أحبه، وظلّ يفكر فيه، ثم يترسخ حبه بتكرار المشاهدات والزيارات، لما كان يملك أوصاف خلابة، قليلون بيننا جدا، ولا يزيدون على عدد الأصابع، هؤلاء الذين يجمعون هذه الصفات الجميلة، ويحملون هذه الخفة في الروح، وهذا الصفاء في الطينة، وكنت من الذين يحبونه، وتأثروا بشخصية الفريدة، وكنت معجبا بعلمه العميق، وفصاحته في الكلام، وبلاغته في الخطاب، ونظره الثاقب في العلوم، ونشاطه وحيويته في هذه السن المتأخرة، لأن نشاطه المتدفق من الكاد أن يوجد في الشباب واليافعين فضلا عن الشيوخ والمعمرين، وسمعت بأنه كان مشتغلا بالعلم إلى آخر ساعات من عمره، حيث يأتيه عدد من الطلبة وهو في غرفته، يستفسرون عنه مسألة نحوية استشكلت عليهم في كتاب الكافية لابن الحاجب، ويشعر ضيقا في التنفس، بسبب نوبة قلبية، وهو يوضح لهم المسألة، فينتقل للتوّ إلى المستشفى، لافظا أنفاسه الأخيرة، وهكذا أدمج نفسه في عداد طالبي العلم من المهد إلى اللحد.
فوجئت جداً بنعيه -رحمه الله- ولعل هذه المفاجئة لم أواجهها عند نعي شخص -إلا ما شاء الله- لأنه كان نشيطا، فعّالا، باشّا، وقد رأيناه عند مجيئه إلى المجمع الفقهي قبل شهرين في مستهل ربيع الأول من العام الجاري، المنعقد في دار العلوم بزاهدان، وزرناه واجتمعنا به، واستفدنا منه، وترسخ حبه في قلوبنا أكثر من السابق، ولم يكن لنا بالحسبان، بأنه جاء يودّعنا، ولا تقرّ عيوننا برؤية وجهه الطلق البشوش في المستقبل، ولم يدر بالخَلَد بأن يستعجل إلى الرفيق الأعلى، ويغذّ في السير هكذا، ويُحدث برحيله في المجتمع الخراساني خاصة والإيراني والبشري عامة، ثلمة من الصعب جدا أن تنسد، إلا أن يرحمنا الله، وقد تركنا ولم تبرأ قلوبنا الكسيرة وتلتئم من الجرح العميق الذي لحق بها في حادث رحيل قدوة الخلف وبقية السلف العلامة سليم الله خان رحمه الله، فجاءت الملمة على الملمة.
الدهر يصطفي الأفضل والأحسن دائما، وهو قناص لا تخطئ سهامه الغرض، وهكذا يواصل الطريق على دربه، فلا يبقي إلا الحثالة والحفالة، وكل سهم من سهامه المفتتة القاتلة يقع على أجسامنا، لأنه حينما يأخذ منا أحبابنا وكبارنا ومشايخنا، ومن نحبهم، يستهدفنا في الحقيقة بنصاله ويفجعنا، فتجتمع السهام إلى أنها تقع عليها نفسها، فقد لا ننتبه لوقع السهام وحجم المصيبة التي تنزل بنا.
المرء لو لم يرد التعوّد على المصائب فالدهر کفیل بأن يعوّده رغم أنفه، إلى أن ينصهر في لهيب نارها، فلا يشعرها، كالذي خدر، فلا يحس بما يمس جسمه ويجري فيه من الآلام، المشايخ يرتحلون واحدا واحدا ويتركوننا فرادى في دوامة الفتن التي تكثر يوما ليوم كلما نقترب من آخر الزمان، والأساتذة يودّعوننا، ماضين إلى ما ينتظرهم في الآخرة، بعد نضال وكفاح حثيثين في سبيل الله، والأحباب تفارقنا فجأة، وكذلك أعضاء الأسرة، والأم والأب، والأقارب، لتتركنا المصائب فردا، وتعوّدنا على تجرّع المرارات القاسية، فنصبح لا نعبأ بها، ولأن الاكتراث والاهتمام به، يكون بغير جدوى.
وعنوان المقال (تكسّرت النصال على النصال) مأخوذ من عجز (الشطر الثاني) لبيت من قصيدة لإمبراطور الشعراء أبي الطيب المتنبّي، (النصال جمع النصل، حديدة الرمح والسهم) اخترته كعنوان هنا، لما أنه يفي بالغرض الذي كنت أرمي إليه، حرفا حرفا، حين يقول:
رماني الدهر بالأرزاء حتى/
فؤادي في غشاءٍ من نبالِ
فصرت إذا أصابتني سهام/
تكسّرت النصال على النصال
وهان فما أبالي بالرزايا/
لأني ما انتفعتُ بأن أبالي.

رحمه الله تعالى وجميع مشايخنا وأساتذتنا الذين ودّعونا مرتحلين إلى الدار الآخرة قديما أو حديثا.