- سني أون لاین - http://sunnionline.us/arabic -

المقبرة الجماعية في “خضدار” والإعلام في باكستان

إن مدينة خضدار من المدن العريقة في مكران وأقرب مدنها إلى الهند، تقع على بعد 360 كم من مدينة “كويتا” عاصمة ولاية بلوشستان في باكستان. ذكرها المؤرخون وأصحاب البلدان باسم “قصدار” و”قزدار” في كتبهم. وقد فتحها الصحابي سنان بن سلمة المحبّق الهذلي في ضمن الفتوحات الإسلامية في مكران.

وقد قيل فيه:
حلّ بقصدار فأضحى بها … في القبر لم يقفل مع القافلين
لله قصدار وأعنابها … أيّ فتى دنيا، أجنّت، ودين
وفي “خضدار” كانت وفاة ذلك الصحابي الجليل الفاتح سنان بن سلمة المحبق الهذلي ومقبرته مشهورة في ضواحي هذه المدينة، وقد نشر صورة هذه المقبرة، الدكتور عبد الرحمن البروهي في كتابه “الصحابة الكرام في بلوشستان”. لذلك اعتبر عدد من الكتاب المعاصرين كالدكتور رضوان الندوي هذه المدينة وبل بلوشستان باب الإسلام للهند الواسعة.
 منذ مدة طويلة لا نسمع عن باب الإسلام للهند وأحواله إلا احتجاحات أو نشاطات أو اشتباكات في هوامش الأنباء والصحف المحلية الباكستانية. في الماضي القريب قامت نشاطات طلابية وفئوية وكذلك ثورات مسلحة للقوميين البلوش ضد الحكومة والجيش الباكستاني في “خضدار”. معظم هذه النشاطات كانت متأثرة بثورات المناطق الأخرى وأحداثها في بلوشستان. هذه النشاطات كانت حجة وذريعة ليكثّف الجيش وجوده في هذه المدينة وضواحيها بحجة الانفلات الأمني وأعذار أخرى. ومن ناحية أخرى كانت “خضدار” بسبب بعدها عن العواصم الرئيسة وأعين الإعلام مرتعا مناسبا لتناطح الجهات المسحلة الأمنية والقومية وإنشاء معسكرات سرّية للجهتين المتنازعتين. أما الناشطون المدنيون والجماعات السياسية غير المسلحة المعارضة للحكومة فهم بين كمّاشتي الجهات السرّية التابعة للمخابرات والجماعات القومية المتطرفة منذ عقود طويلة؛ فهم خونة في نظر الجيش لخيانتهم إلى باكستان بمخالفتهم بعض سياسات الجيش والحكومة، وخونة في نظر القوميين البلوش لأنهم خانوا وطنهم وباعوها للأجانب!
 الجيش أطلق أيدى المخابرات وأيدي تنظيمات سرّية تحمل أسماء مختلفة لتنوب عنه بقيام مهمة كبيرة وهي قمع المعارضين وتكميم أفواههم من خلال الخطف والاغتيال وإثارة الفتن. جهات مختلفة ومنظمات مختلفة مسلحة وجدت على الساحة باسم الإسلام والمسلمين والوطن لتصدى النشاطات السياسية للمعارضين البلوش في “خضدار” كغيرها من المدن في بلوشستان. هذه الجماعات تصف نفسها بحرس باكستان وتهدد الإعلاميين والناشطين ومن يعارضون الجيش والمخابرات ويهددون وحدة الوطن الواحد حسب مزاعمهم.
في يوم السبت (25 يناير /24 ربيع الأول) اكتشفت مقبرة جماعية في  منطقة “توتك” القريبة من خضدار”، في البداية عثر راع على أجزاء من جسد، ثم  بعد البحث اكتشفت مقابر بجانب ذلك الجسد. عثرت في هذه المقابر على 103 جثة. أعلنت اللّجنة الآسيوية لحقوق الإنسان، أن عدد الجثث الموجودة في المقبرة المكتشفة كان أكثر من 100 جثة. قالت اللجنة المذكورة لحقوق الإنسان في ذلك الوقت: إنه من المرجح أن تكون هذه الأجساد للبلوش الذين تمّ اختطافهم وصاروا في عداد المفقودين في الماضي. وتأكدت هذه الفرضية بعد ما حضر أسر الكثير من  الضحايا والمفقودين للتعرّف على ذويهم إلى المكان الذي تمّ اكتشاف المقابر فيه، وتعرّف بعض ذوي المفقودين على جثتين كانتا تنتميان إلى مفقوديهم لسنوات ماضية.
 تعتقد منظمات حقوقية أن أكثر من 18 ألفا على الأقل من الناشطين السياسيين والمدنيين البلوش قد اختطفوا منذ عام 2001، ولا يعرف مصيرهم لحد الآن. تم العثور في صحراء بلوشستان على جثث مشوهة لـ1700 شخصا تعرضوا للتعذيب الشديد من يوليو 2010 إلى يونيو 2013 حتى الآن.
لما وجدت المقبرة المذكورة تصدت الحكومة الباكستانية لدخول المدنيين وخاصة عوائل بعض المفقودين من الاقتراب عن المكان المذكور بهدف كتمان المسئلة. لكن لمّا إن انتشر الخبر في الإعلام المحلي في بلوشستان، أثارت الحكومة الباكستانية ملفا أمنيا آخر وقضية أخرى إعلاميا وهي المصالحة مع حركة طالبان، وأشغلت الشعب وكذلك الإعلام بتلك القضية التي كانت تعتبر محسومة من قبل من وجهة نظر الحكومة والحركة المذكورة بسبب عجز الحكومة عن إيقاف هجمات “الدرون” بعد مقتل زعيم تلك الحركة في قصف قبل شهور.
فهل أثارت الحكومة قضية المصالحة مع طالبان لتخفي في ظلها الجريمة المكشوفة في “توتاك خضدار”؟
لا شك أن الحكومة التي وجهت إليها أصابع الاتهام من جانب المنظمات الحقوقية بارتكاب جرائم الخطف والاغتيال في بلوشستان، ستحاول بشتى الطرق كتمان مثل هذه الدلائل والحجج على تصرفاتها.
لكن السؤال هنا، لماذا لم يلق هذا الخبر انتشارا إعلاميا واسعا في باكستان التي يهتم الإعلام فيها بوقائع وحوادث أقل أهمية من جريمة “خضدار”؟!  
فالإعلام مثلا يهتم إلى التفجيرات التي تحدث في المدن الكبرى بطريقة مذهلة دائما، فيبثّ الدمار الناتج عنها وكذلك المشاهد المؤلمة التي تترتب عليها من أشلاء الضحايا وغير ذلك بطريقة خاصة، ويبذل قصارى جهده في إثارة الرأي العام ضد القائمين بهذه العلميات التفجيرية. كما يؤلب الرأي العام ضد الدولة المنتخبة من قبل الشعب ويستهدفها بالنقد ويسعى لتخريبها، إذا كانت الدولة في خلاف مع القوى الأمنية والجيش. الإعلام يتشدق لساعات طويلة حول حدث صغيرا كان أو كبيرا إذا كان الحدث لا يمسّ الجهات الأمنية والمخابراتية بسوء.
أثبتت بعض الأحداث في السنوات الأخيرة وآخرها المقبرة الجماعية في “خضدار” أن قوة الإعلام في باكستان مرتبطة بقوة المخابرات والجهات الأمنية التي يديرها جنرالات من الجيش، لأن الإعلام متسارع دائما إلى بث المجازر التي تحدث في كافة البلاد الإسلامية، لكن بالنسبة إلى القضايا الداخلية فقد ثبت انحيازه البيّن إلى سياسة خاصة طوعا أو كرها، وهي السياسة التي تتبناها المخابرات والجهات التابعة لها.
الإعلام الحر المحايد في البلدان التي تدعي الديموقراطية والحرية دائما هو المكتشف للمجازر والجرائم. الإعلام الباكستاني لم يكتشف الجريمة المذكورة في “خضدار”  فحسب، بل لم يبد أدنى اهتمام لها بأن يجعلها مثلا عنوانا لخبر يوم على الأقل. فهل بعد هذا للإعلام في باكستان أن يدّعي الحياد والمنهجية؟! وللعلمانيين والجمهوريين أن يدعوا الحرية والديموقراطية؟! وهل كان الإعلام يؤثر السكوت في حال وجدت المقابر المذكورة في ضاحية “لاهور” أو “راولبندي” أو “كراتشي”؟
كان بإمكان الإعلام أن يضايق المخابرات والحكومة بشأن جريمة “توتك خضدار” إلا أنه أخلد كرها أو طوعا إلى السكوت المميت الذي ليس في شأن الإعلاميين ولا الصحافيين في بلد يعادى فيه الإسلام والإسلاميين باسم الديموقراطية والحرية والجمهورية، وهم أبعد الناس والطوائف عن أبجديات الديموقراطية والجمهورية.