- سني أون لاین - http://sunnionline.us/arabic -

نظرة إلى حياة قاضي بلوشستان، الشيخ “عبد الله سربازي” رحمه الله

المولد والمنشأ: ولد رحمه الله سنة 1300 من الهجرة النبوية في قرية “هيت” وسماه والداه بـ”عبد الله”، تيمنا بالحديث النبوي الشريف.
كان والده “الحاج محمد” ووالدته “بي بي هزاري” من أسرة ملتزمة عريقة متدينة بتعاليم الشريعة. توفي والد عبد الله وهو لم يزل طفلا رضيعا في طريقه لحج بيت الله الحرام في إفريقيا (وقد كانت الرحلة من طريق البحر إلى إفريقيا، ثم إلى جدة)، وكان من قدر الله وحكمته أن يذوق هذ الطفل مرارة اليتم ويعيش يتيما.
تزوجت والدة الشيخ عبد الله بـ”نظر محمد” من أعيان القرية التي كانت الأسرة تعيش فيها بعد وفاة الحاج محمد والد عبد الله ،لأن الأسرة بقيت محتاجة إلى من يتكفل معاشها ورعايتها، خاصة بعد أن توفي موسى شقيق عبد الله في ريعان الشباب. وهكذا واصلت الأسرة المتكونة من الوالدة والأخ والأخت حياتها تحت كفالة “نظر محمد” بعد ذلك.
ولقد اهتم كل من والدة عبد الله وزوجها اهتماما بالغا إلى تربية عبد الله عندما كان طفلا يتيما، لذلك أحسن تعلم الحروف والقراءة التقليدية والقرآن الكريم في مسقط رأسه بأحسن وجه، وكان يساعد أسرته في أعمال الفلاحة. لكن لما رأى عائلة عبد الله الذكاء المفرط فيه والرغبة العالية للتعلم، أرسلوه بكل شوق ورغبة إلى قرية “بارود” الواقعة بقرب من قرية “هيت”، ليدرس هناك على الملا “عبد الملك” في كتّابه مساء وبعد الانتهاء من أعمال المساعدة والإعانة للأسرة في الصباح.
تعلم في الكتّاب قراءة القرآن الكريم والمسائل الدينية والآداب الإسلامية. وكان عبد الله يذهب ماشيا وفي حرالصيف الشديد إلى الكتّاب الواقع في قرية “بارود” للتعلم. ونظرا إلى ذكائه واستعداده وبفضل الله تعالى استطاع أن يتعلم ما كان تعلمه ضروريا في هذا السن المبكر عند ذلك العالم والأستاذ الجليل.

الرحلة لطلب العلم:
لم تكن في ذلك الوقت مدرسة أو كتّاب أكثر مكانة وشهرة من كتّاب “بارود” في بلوشستان. ومن ناحية لم تكن الدروس التي تدرس فيها تروي غليل رائد متعطش مثل عبد الله، ولا تطفئ شرارة الشوق والرغبة التي اشتعلت في هذا الشاب المستعد النشط.
كان عبد الله يواجه مشكلات عديدة في مواصلته للتعلم، أهمها حاجة الأسرة إلى مساعدته لهم في المعيشة اليومية، كما أن والدته لم تكن تصبر على مفارقة فلذة كبدها. لكنه استطاع أن يتغلب على هذه العواطف والمشاعر، واتخذ بدرايته وفهمه تدبيرا ليكون نافعا لنفسه وللمجتمع الإسلامي وكذلك أسرته.
وكلما مر الزمان ازداد شعوره بالمسؤولية وأدرك أن الناس بحاجة إلى وجود علماء ربانيين ملتزمين، وكيف أوضاع الناس الدينية والثقافية؟ وكان يعلم جيدا أن حل المشكلات وحل الأوضاع السيئة لا يمكن إلا بوجود علماء ربانيين وملتزمين ومتعهدين.
وقد أجمع رأيه على أن يستعد لقبول مثل هذه المسؤولية ويترك أسرته ووطنه ويهاجر إلى كراتشي التي كانت من مدن الهند الواقعة تحت الاحتلال البريطاني، للاستمرار في تلقي العلوم الشرعية، وعانى جميع مشقات السفر ومصاعبه، ولم يكن السفر في ذلك العصر سهلا ميسورا.

في كراتشي:
عندما وصل رحمه الله إلى كراتشي، تعجل في الذهاب إلى أحد المراكز الدينية الهامة والمدارس الشرعية المعتبرة فيها، وهي مدرسة “مظهر العلوم”، وسجل في هذا المركز العلمي الكبير الذي كان يقع آنذاك في منطقة “كهده” واشتغل على كبارأساتذة والمشائخ الموجودين فيها بالتعلم، ودرس لمدة خمس سنوات في تلك المدرسة، وتقدم في دراسة أنواع العلوم الإسلامية والأخلاق وتزكية النفس، لكنه مع ذلك كان يشعر بأنها تجب الهجرة للتقدم المزيد في العلوم الإسلامية ودراسة السنوات التخصص والدراسات العالية في مدرسة دينية أخرى في إقليم “سند”، وهي مدرسة “بير جندا”، واستطاع عبد الله أن يقضي مرحلة الدراسات التخصصية في تلك المدرسة ويكتسب معرفة كافية من الكتب الأصول في الحديث ورواة الحديث والمحدثين، ويبلغ في علم الحديث وفهمه مكانة لائقة.

العودة إلى الوطن:
بعد ما تزوّد رحمه الله بالعلوم والتجارب المفيدة من هجرته لاكتساب العلم والمعرفة، عاد إلى وطنه وبلده للدعوة والتبليغ وإرشاد الناس وهدايتهم. ولما سمع الناس في المناطق المختلفة من بلوشستان بمقدمه أقبلوا إليه من النواحي المختلفة من بلوشستان لزيارة هذا العالم الجليل.
وكان الناس يحضرون عنده لحل مشكلاتهم واختلافتهم وفهم المبادئ والمسائل الدينية والتمييز بين الحلال والحرام من الشريعة، ويطلبون من سماحته التدابير اللازمة المفيدة، وكان رحمه الله يتطرق إلى حل مشكلاتهم والإجابة على مسائلهم بوجه طلق، فكان أول عالم في الحقيقة استطاع التخصص والتقدم في دراسة العلوم الشرعية، وكان صاحب رأي في كثير من العلوم الإسلامية.

السفر إلى مناطق مختلفة من بلوشستان:
إن نشاطات الشيخ عبد الله رحمه الله وفكرته الإصلاحية لم تكن تنحصر بمنطقة خاصة في بلوشستان، لأجل ذلك كان رحمه الله يرجح أن يسافر إلى مناطق مختلفة من بلوشستان ليطلع على أحوال وأوضاع الناس الدينية، لينقذ الناس من ظلمات البدع والخرافات والتقاليد الباطلة والمغايرة لتعاليم الشريعة المقدسة، وأن يحل مشكلاتهم المذهبية والاجتماعية، في ظل الشريعة الإسلامية وأحكامها، ما استطاع.

الجهاد ضد الطائفة “الذكرية” الضالة:
والسبب في قتال هذه الطائفة الضالة التي يسكن أتباعها الضالون حاليا في مناطق جنوبية من بلوشستان في باكستان، أنهم هجموا على أحد مساجد “كيشكور” وضربوا مؤذن المسجد وقد بلغت بهم الجرأة حيث أساؤا إلى بيت الله وعملوا كل منكر وقبيح بالنسبة إلى هذ االمكان المقدس، وقد أغضبت هذه التصرفات القبيحة السيئة من جانب “الذكريين” فضيلة الشيخ عبد الله رحمه الله، ولما علم رئيس الطائفة “الذكرية” أن الشيخ عبد الله غاضب من أعمالهم، أدرك خطورة غضب الشيخ عبد الله رحمه الله، فخاف وقرّر أن يغادر هو وأتباعه إيران ويذهبوا إلى باكستان، حيث تحركوا نحو باكستان، وفي طريقهم  أقاموا في منطقة قريبة من “جكيغور” واستقروا بها.
ومن جانب آخر تحرك الشيخ والمسلمون معه من قرية “دبكور” في منطقة “سرباز” إلى “فيروز آباد” في “راسك”، ومن هناك لحق بهم جنود مسلمون آخرون كانوا ينتظرون الشيخ بأمر منه إلى “جكيغور” حيث كان يقيم فيها الطائفة الضالة. وقاموا بمحاصرة المنطقة التي تجمع فيها “الذكريون” وجرت المعركة واستشهد في هذه المعركة شخص من المسلمين وجرح آخر، وهلك من فريق الباطل ومن الطائفة الضالة سبعة، كما هلك رئيسهم وجرح منهم عدد كبير، وهرب الباقون منهم إلى باكستان، وسكنوا في إقليم بلوشستان في البلد المجاور، وحدثت هذه المعركة صباح الأحد من شهر ربيع الأول سنة 1355 من الهجرة النبوية.

الأهل والأولاد:
تزوج الشيخ عبد الله رحمه الله طوال عمره أربع مرات، وله سبعة أبناء وخمس بنات، والشيخ عبد العزيز رحمه الله مؤسس جامعة “دار العلوم” في زاهدان كان أكبر أولاده. تزوج بنت خاله “دربي بي” فأنجبت إبنا وثلاث بنات، والإبن هو الشيخ عبد المجيد ملازاده رحمه الله من كبار علماء بلوشستان.
وزوجته الأخرى “بي بي غل” وهي والدة الشيخ العلامة “عبد العزيز” رحمه الله ووالدة ملا “سيد محمد”.
وزوجته الثالثة هي “بي بي لالين” التي أنجبت بنتا اسمها فاطمة. وزوجته الرابعة هي “بي بي مراد خاتون” التي أنجبت أربعة أبناء وبنتا واحدة، والأبناء هم: “الدكتور عبد الرحيم ملازاده” (أبو منتصر البلوشي) والشيخ “عبد الحكيم” و”عبد الحق” والحاج “عبد الرحمن”.

خصائصه الأخلاقية:
لقد كان رحمه الله بفضل تعلمه العلوم الشرعية والتبحر فيها والتجارب التي حصل عليها من خلال الرحلات وتربية الصغر في كنف والدة ملتزمة مؤمنة، يمتاز بخصائص ويفوق الكثيرين في بعض الصفات والأخلاق. و أبرز ما أعجب به من رآه من الخصال والصفات، هي:

كثرة العبادة
كأنّ هذه الآية القرآنية جعلتها نصب عينيه “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، ولقد بقيت في سيماه أثر السجود، وكان الخشوع والخضوع وكذلك الطمأنينة وإطالة القيام هي الصفة الغالبة على صلاته. مهما وجد فارغا أو فرصة أقبل إلى ذكر الله تعالى من التسبيح والتهليل أو تلاوة القرآن الكريم.

محبة رسول الله
إن كثرة المطالعة في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أثناء الدراسة والتدريس والاهتمام بها في المجالس والمناسبات، لقد أثرت في شخصيته. يقول “غلام محمد ملازهي” وهو من شعراء بلوشستان: “أحيانا يأمرني الشيخ عبد الله بقراءة أشعار في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما بدأت بقراءة بعض الأشعار في وصف الرسول، تأثر بشدة وبدأت عيناه تذرفان”.

رغبته للمطالعة
كانت للقاضي رغبة شديدة في مطالعة الكتب الدينية والعلمية، وكان يعتقد أن معلوماتنا قليلة جدا بالنسبة إلى المجهولات، ويجب على العالم أن يكون عالما بأحوال وأوضاع عصره، وعالما بالشريعة الإسلامية، ولا يمكن حصوله إلا من خلال المطالعة في الكتب الدينية.
لأجل هذا حمل رحمه الله معه مجموعة من الكتب الرئيسة والمصادر إلى الوطن بعد التخرج، وقام بمطالعتها مرات، ولم يكن عنده شيء أحلى من مطالعة هذه الكتب. وكان عندما ينهمك في مطالعة بحث أو مسئلة، يغفل كل شيء.

الشجاعة والسخاء
قلما تجتمع هاتان الخصلتان في شخص، وقد اجتمعت فيه رحمه الله، حيث كان شجاعا في المعركة، وقد اشتهرت بهذه الشجاعة في قتاله مع الفرقة الذكرية الضالة ووقوفه بشجاعة كاملة تجاه سياسة “رضا خان” اللادينية، وكان صريحا في بيان الحق، ولا يخاف في ذلك لومة لائم.
أما جوده وسخائه فلم يكن أبدا في فكر جمع المال أو ادخاره، ولم يكن يهدأ إذا وصلت إلى يده أموال، سواء كانت أموال زكاة أو الفقات والتبرعات من الناس حتى ينفقها ويوزعها على مصارفها.

وفاة الشيخ رحمه الله:
لبّى الشيخ عبد الله، قاضي بلوشستان، دعوة ربه، بعد فترة طويلة من حياة مليئة بالجهود والمساعي والدعوة إلى الله، ليلة الثلاثاء، الثاني عشر من شهر صفر سنة 1379 من الهجرة النبوية.
رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.