- سني أون لاین - http://sunnionline.us/arabic -

إبراهيم بن ادهم (2)

ebrahim_adhamمن أقوال إبراهيم بن أدهم:
قال: كلّ سلطان لا يكون عادلاً, فهو واللص سواء، وكل عالم لا يكون تقيًّا, فهو والذئب سواء، وكلّ مَن ذلَّ لغير الله، فهو والكلب سواء.
وكان يقول:
ما لنا نشكو فقرنا إلى مثلنا ولا نسأل كشفه من ربنا … أنّ عبداً أحبّ عبداً لدنياه, ونسي ما في خزائن مولاه .

وكان يقول لأصحابه إذا اجتمعوا: (ما على أحدكم إذا أصبح وإذا أمسى أن يقول: اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت الرجاء).
وقال: أعزّ الأشياء في آخر الزمان ثلاثة: أخ في الله يؤنس به، وكسب درهم مِن حلال، وكلمة حقّ عند سلطان.
قال إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه: خرج رجل في طلب العلم فاستقبل حجراً فإذا فيه: اقلبني تعتبر، فبقى الرجل لا يدري ما يصنع به، فمضى ثم رجع فقلّبَه, فإذا هو منقور،(مكتوب) أنت لا تعمل بما تعلم، فكيف تطلب علم ما لا تعلم, فانصرف الرّجل إلى منزله.
وقال أبو حنيفة رحمه الله يوما لابراهيم بن أدهم: قد رُزِقتَ مِن العبادة شيئا صالحا, فليكن العلم مِن بالك , فإنّه رأس العبادة وقوام الدين.
فقال له إبراهيم: وأنت فليكن العبادة والعمل بالعلم من بالك , وإلّا هلكت.
قال إبراهيم بن أدهم: مَن أَراد التَّوبة، فليَخرُجْ مِن المظالمِ، وَلْيَدَعْ مُخالطَة النَّاس، وإلا لمْ يَنَلْ ما يريد.
وقال: ما صدَق اللهَ عَبدٌ أَحبَّ الشُّهرَة.
قال الذهبي تعليقا على كلامه: علامة المُخلِصِ الَّذي قد يُحبُّ شهرةً، ولا يَشعُر بها، أَنَّه إذا عُوتِبَ في ذلك، لا يَحرَدُ ولا يُبرِّئُ نفسه، بل يعترِف، ويقول: رحِمَ اللهُ مَن أَهدَى إِليَّ عيوبي، ولا يكُنْ مُعجَباً بِنفسِه؛ لا يَشعرُ بعُيُوبِها، بل لا يَشعرُ أَنَّه لا يَشعر، فإنّ هذا داءٌ مُزمِن.
قال إِبراهيم بن بشَّار:
سمعتُ إبراهيم بن أَدهم يقول: وأيُّ دِينٍ لو كان له رجالٌ! مَن طلبَ العلم لله، كان الخُمُول أَحبَّ إليه مِن التَّطاوُل، والله ما الحياة بثِقَةٍ، فيُرجى يَومُها ،(وفي رواية نومها) ولا المَنِيَّة بعُذر، فيُؤمنُ عُذرُها، ففيم التَّفريط والتَّقصير والاتِّكال والإِبطاء؟ قد رضينا مِن أَعمالنا بالمعاني، ومِن طَلبِ التَّوبةِ بالتَّواني، ومِنَ العيشِ الباقي بالعيش الفاني.
وعن إبراهيم قال: حبُّ لقاء الناس من حبّ الدنيا، وتركهم ترك الدنيا.
وقال لرجل: روعة تروعكم من عيالكم أفضل ممّا أنا فيه.
قال إبراهيم بن بشّار: أوصانا إبراهيم بن أدهم: اهربوا من الناس كهربكم من السبع الضّاري، ولا تخلَّفوا عن الجمعة والجماعة.
و قال إبراهيم: رأيتُ في النّوم كأنّ قائلاً يقول لي: أيحسن بالحُرّ المريد أن يتذللّ للعبيد وهو يجد عند مولاه كلّ ما يريد.
قال بقية: سمعتُ إبراهيم بن أدهم يقول: عالجتُ العبادة فما وجدتُ شيئاً أشدّ علي من نزاع النفس إلى الوطن.
قال إبراهيم بن أدهم: ما قاسيتُ فيما تركتُ شيئاً أشدّ مِن مفارقة الأوطان.
وقال : المسألة مسألتأن، مسألة على أبواب الناس، ومسألة يقول الرجل: ألزم المسجد وأصلي وأصوم وأعبد الله، فمن جاءني بشيء قبلتُه، فهذه شرّ المسألين، وهذا قد ألحف في المسألة.
و قال إبراهيم ابن أدهم: أقلّوا من الإخوان والأخلاء.
قال إبراهيم بن بشار: اجتمعنا ذات يوم في مسجد فما منّا أحد إلّا تكلّم، إلّا إبراهيم بن أدهم فإنّه ساكت، فقلتُ: لم لا تتكلّم؟
فقال: الكلام يظهر حمق الأحمق، وعقل العاقل.
فقلتُ: لا نتكلم إذا كان هكذا الكلام.
فقال: إذا اغتممت بالسكوت فتذكر سلامتك من زلل اللسان.
يقول إبراهيم بن أدهم: منّ الله عليكم بالإسلام فأخرجكم من الشقاء إلى السعادة، ومن الشدّة إلى الرّخاء، ومِن الظلمات إلى الضياء، فشبتم نعمه عليكم بالكفران، ومررتم بالخطأ حلاوة الإيمان، وهدمتم الطاعة بالعصيان، وإنّما تمرون بمراصد آلافات، وتمضون على جسور الهلكات، وتبنون على قناطر الزلات، وتحصنون بمحاصن الشبهات، فبالله تغترون، وعليه تجترئون، ولأنفسكم تخدعون، و لله لا تراقبون، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وقال: أنعم الله عليك فلم تكن في وقت أنعمه شكوراً، لا يغررك حلمه، واذكر مصيرك إلى القبور، واعمل ليومك يا أخي قبل حشرجة الصدور.
و قال: كثرة النظر إلى الباطل تذهب بمعرفة الحق من القلب.
قال بقية: كان إبراهيم بن أدهم إذا قيل له: كيف أنت؟ قال: بخير ما لم يحمل مؤنتي غيري.
عن إبراهيم بن أدهم، قال: نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل توجهون بشيء؟
قيل لإبراهيم بن أدهم: إنّ اللحم غلا، قال: فأرخصوه . أي: لا تشتروه.
قال: ونظر إبراهيم إلى رجل قد أصيب بمال ومتاع و وقع الحريق في دكانه، فاشتد جزعه حتّى خولط في عقله، فقال: يا عبد الله، إنّ المال مال الله، متعك به إذا شاء وأخذه منك إذ شاء, فاصبر لأمره ولا تجزع، فإنّ مِن تمام شكر الله على العافية, الصبر له على البلية، ومن قدم وجد، ومن أخر فقد ندم .
قال إبراهيم بن أدهم: لا تجعل بينك وبين الله منعماً, و عُد نعمة من غيره عليك مغرماً.
قال إبراهيم بن بشار: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: قليل الخير كثير، وقليل الشر كثير. واعلم يا ابن بشار أنّ الحمد مغنم، والذم مغرم.
وقال إبراهيم بن أدهم: تريد تدعو؟ كل الحلال وادع بما شئت.
و قال : على القلب ثلاثة أغطية:
الفرح والحزن والسرور، فإذا فرحت بالموجود فأنت حريص، والحريص محروم، وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط، والساخط معذب، وإذا سررت بالمدح فأنت معجب، والعجب يحبط العمل. ودليل ذلك كله قوله تعالى: ” لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم ” . – الحديد:23 – .
يُحكى عنه أنّه قال: أطب مطعمك، ولا عليك أن لا تقوم بالليل، ولا تصوم بالنهار.
قال إبراهيم بن بشار: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: خالفتم الله فيما أنذر وحذر، وعصيتموه فيما نهى وأمر، وكذبتموه فيما وعد وبشر, وكفرتموه فيما أنعم وقدر، وإنّما تحصدون ما تزرعون، وتجنون ما تغرسون، وتكافئون بما تفعلون، وتجزون بما تعملون، فاعلموا إن كنتم تعقلون، وانتهوا من وسن رقدتكم لعلكم تفلحون .
وقال: الله الله في هذه الأرواح والأبدان الضعيفة، الحذر الحذر، الجد الجد، كونوا على حياء من الله، فو الله لقد ستر وأمهل، وجاد فأحسن، حتّى كأنّه قد غفر كرما منه لخلقه.
عن إبراهيم بن أدهم أنه قال ذات يوم: لو أنّ العباد علموا حبّ الله عزّ وجل لقلّ مطعمهم ومشربهم وملبسهم وحرصهم، وذلك أنّ ملائكة الله أحبّوا الله فاشتغلوا بعبادته عن غيره، حتّى إنّ منهم قائماً و راكعاً وساجداً , منذ خلق الله تعالى الدنيا , ما التفت إلى من عن يمينه وشماله، اشتغالاً بالله عز وجل وبخدمته.
قال خلف بن تميم: سمعت إبراهيم بن ادهم يقول: من تعوّد أفخاذ النساء لم يفلح.
قال شريك: سألت إبراهيم بن أدهم عمّا كان بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، فبكى، فندمت على سؤالي إيّاه، فرفع رأسه فقال، من عرف نفسه اشتغل بنفسه عن غيره، ومن عرف ربّه اشتغل بربه عن غيره.
قال إبراهيم بن أدهم: إنّ الصائم القائم المصلى الحاج المعتمر الغازي، من أغنى نفسه عن الناس.
وكان يقول: أشدّ الجهاد جهاد الهوى، مَن منع نفسه هواها فقد استراح من الدنيا وبلائها، وكان محفوظا ومعافى من أذاها.
يقول إبراهيم بن أدهم: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغض حبيبك، ذمّ مولانا الدنيا فمدحناها، وأبغضها فأحببناها، وزهدنا فيها فآثرناها و رَغِبنا في طلبها، وعدكم خرابَ الدنيا فحصنتموها، ونهيتم عن طلبها فطلبتموها، وأنذرتم الكنوز فكنزتموها, دعتكم إلى هذه الغرارة دواعيها، فأجبتم مسرعين مناديها، خدعتكم بغرورها ومنتكم، فانفذتم خاضعين لأمنيتها تتمرغون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتقلبون في شهواتها، وتتلوّثون بتبعاتها، تنشبون بمخالب الحرص عن خزائنها، وتحفرون بمعاول الطمع في معادنها، وتبنون بالغفلة في أماكنها وتحصنون بالجهل في مساكنها، تريدون أن تجاوروا الله في داره، وتحطوا رحالكم بقربه، بين أوليائه وأصفيائه، وأهل ولايته، وأنتم غرقى في بحار الدّنيا حيارى، ترتعون في زهواتها، وتتمتعون في لذاتها، وتتنافسون في غمراتها، فمن جمعها ما تشبعون، ومن التنافس فيها ما تملون، كذبتم والله أنفسكم وغرتكم ومنتكم الأماني، وعللتكم بالتواني، حتى لا تعطوا اليقين من قلوبكم، والصدق من نياتكم، وتتنصلون إليه من مساوىء ذنوبكم وتعصوه في بقية أعماركم، أما سمعتم الله تعالى يقول في محكم كتابه: ” أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ” – ص:28 – . لا تنال جنّته إلّا بطاعته، ولا تنال ولايته إلّا بمحبّته، ولا تنال مرضاته إلّا بترك معصيته، فإنّ الله تعالى قد أعدّ المغفرة للأوّابين، وأعدّ الرحمة للتّوابين، وأعدّ الجنّة للخائفين، وأعد الحور للمطيعين، وأعد رؤيته للمشتاقين، قال الله تعالى: ” وإنّي لغفّار لمَن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ” . – طه:82 –
وكان كثيرا ما يقول: دارنا أمامنا وحياتنا بعد وفاتنا, فإمّا إلى الجنّة, وإمّا إلى النّار.
وقال: إذا كنتَ بالليل نائما, وبالنهار هائما, وفي المعاصي دائما, فكيف تُرضي مَن هو بأمورك قائما.
وقال: إنّك كلّما أمعنتَ النّظر في مرآة التوبة بان لك قبح شين المعصية.
وقال: أثقل الأعمال في الميزان أثقلها على الأبدان، ومَن وَفّى العمل وفى له الأجر، ومَن لم يعمل رحل من الدنيا إلى الآخرة بلا قليل ولا كثير.

ومما حكي عنه:
شكا الثَّوريّ إلى إبراهيم بن أدهم فقال: نشكو إليك ما يُفعَل بنا، وكان سفيان الثوري مختفياً.
فقال: أنت شهرت نفسك بحدّثنا وحدّثنا.
جاءه أهل البصرة يومًا وقالوا له: يا إبراهيم.. إن الله تعالى يقول في كتابه: {ادعوني أستجب لكم} (غافر: 60)
ونحن ندعو الله منذ وقت طويل فلا يستجيب لنا؟!
فقال لهم إبراهيم بن أدهم: يا أهل البصرة، ماتت قلوبكم في عشرة أشياء:
أولها: عرفتم الله، ولم تؤدوا حقه .
الثاني: قرأتم كتاب الله، ولم تعملوا به .
الثالث: ادعيتم حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركتم سنّته.
الرابع: ادعيتم عداوة الشيطان، ووافقتموه .
الخامس: قلتم : نحبّ الجنة، ولم تعملوا لها .
السادس: قلتم : نخاف النّار، ورهنتم أنفسكم بها.
السابع: قلتم: إنّ الموت حقّ، ولم تستعدّوا له .
الثامن: اشتغلتم بعيوب إخوانكم، ونبذتم عيوبكم.
التاسع: أكلتم نعمة ربكم، ولم تشكروها .
العاشر: دفنتم موتاكم، ولم تعتبروا بها .
قال إبراهيم بن بشار سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: ما كانت لي مؤونة قط على أصحابي ولا على غيرهم، إلّا في شيء واحد فقلت: فأيش يا أبا إسحاق؟
قال: ما كنت أحسن أكرى(أؤجر) نفسي في الحصادين فيحتاجون أن يكروني ويأخذون لي الأجرة. فهذه كانت مؤونتي عليهم.
ذكروا أنّه حصد مرة بعشرين دينارا، فجلس مرة عند حجام , هو وصاحب له ليحلق رؤوسهم ويحجمهم، فكأنّه تبرم بهم واشتغل عنهم بغيرهم، فتأذى صاحبه من ذلك. ثمّ أقبل عليهم الحجّام فقال: ماذا تريدون ؟
قال إبراهيم: أريد أن تحلق رأسي وتحجمني، ففعل ذلك فأعطاه إبراهيم العشرين دينارا !
وقال: أردتُ أن لا تحقر بعدها فقيرا أبدا.
وقال شقيق البلخي: قال لي إبراهيم أخبرني عما أنت عليه.
فقلتُ: إذا رُزِقتُ أكلتُ وإذا مُنِعتُ صبرتُ.
قال: هكذا تعمل كلاب بلخ عندنا.
قلتُ له: فكيف  تعمل أنت ؟!
قال: إذا رُزقتُ آثرتُ وإذا مُنعتُ شكرتُ.
قال أبو صالح الفراء، عن شعيب بن حرب: دخل إبراهيم بن أدهم على بعض هؤلاء الولاة.
فقال له: من أين معيشتك ؟
قال إبراهيم:
نُرقِّعُ دنيانا بتمزيق ديننا * فلا ديننا يبقى ولا ما نُرَقع
قال: فقال الوالي: أخرجوه فقد استقتل ! .

كان  إبراهيم بن أدهم ينشد:
أرى أناسا بأدنى الدين قد قنعوا * ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما * استغنى الملوك بدنياهم عن الدين

يروي بقية بن الوليد، يقول: دعاني إبراهيم بن أدهم إلى طعامه، فأتيته، فجلس، فوضع رِجلَه اليُسرَى تحت إليَتِه، ونصب اليُمنَى، و وَضَع مِرفَقه عليها، ثمّ قال:
هذه جِلسَةُ رسول الله – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كان يجلس جِلسَةَ العَبد،  ثمّ قال: كلوا باسم الله، فلما أكلنا، قلتُ لرفيقه: أخبرني عن أشدّ شيء مرَّ بك منذ صحبتَه.. قال: كنَّا صِيَاماً، فلم يكن عندنا ما نفطر عليه، فأصبحنا، فقلتُ: هل لك يا أبا إسحاق أن تأتي الرَّسْتن (بلدة بالشام كانت بين حماة وحمص) فنكري (فنؤجر) أنفسنا مع الحصَّادين؟
قال: نعم..
قال بقية: فاكتراني رجل بدرهم، فقلتُ: وصاحبي؟
قال: لا حاجة لي فيه، أراه ضعيفًا.. فمازلتُ بالرجل حتّى اكتراه بثلثي درهم، فلما انتهينا، اشتريتُ من أجرتي طعامي وحاجتي، وتصدقتُ بالباقي، ثم قرَّبتُ إليه الزاد، فبكى إبراهيم، وقال: أمّا نحن فاستوفينا أجورنا، فليت شِعري أوَفَّينا صاحبنا حقه أم لا؟ فغضبتُ، فقال: أتضمن لي أنَّا وفَّيناه، فأخذتُ الطعام فتصدقتُ به.
قال بشر بن الحارث: رئي إبراهيم بن أدهم مقبلاً من الجبل قيل له: من أين أقبلت؟
قال: من أنس الله عز وجل ثم قال:
اتخذ  الله  مؤنساً  …   و دع الناس جانبا
و تشاغل  بذكره  …   إنّ في ذكره الشفا
وارض منه بما قضى … إنّ في ذلك الغنا

قال عيسى بن خازم: بينما إبراهيم بن أدهم يحصد حقل زرع، أخذه جزافاً إذ وقف عليه رجلان معهما ثقل و وِطاء، فسلّما عليه وقالا: أنت إبراهيم بن أدهم؟
قال: نعم .
قالا: إنّا مملوكان لأبيك ومعنا مال و وِطاء.
فقال إبراهيم: ما أدري ما تقولان، فإن كنتما صادقين فأنتما حرّان والمال لكما، لا تشغلاني عن عملي.
لقي بعض الجند إبراهيم بن أدهم في البرية، فقال له: أين العمران؟
فأومى بيده إلى المقابر، فضربه فشج رأسه..
فقيل له: هذا ابن أدهم!
فرجع يعتذر إليه.
فقال له إبراهيم: الرأس الذي يحتاج إلى اعتذارك تركته ببلخ:
عزى ذلي وصحتي في سقمي … يا قوم رضيت بالهوى سفك دمي
عذالي كفوا فمن ملامي ألمي … مَن  بات  على  وعد  اللقا  لم  ينم

مرّ رجل بابن أدهم وهو ينظر كرماً, فقال: ناولني من هذا العنب .
فقال ما أذن لي صاحبه، فقلب السوط وضرب رأسه، فجعل يطأطئ رأسه، ويقول: اضرب رأساً طالما عصى الله:
من أجلك قد جعلت خدي أرضاً … للشامت والحسود حتى ترضى
مولاي إلى متى بهذا  أحظى … عمري يفنى وحاجتي ما تقضى
لو قطعني  الغرام  إرباً إرباً …  ما ازددت  على  الملام  إلّا حبّا
لا زلت بكم أسير وجد  صبا …  حتى  أقضي  على هواكم  نحبا

قال سهل بن بشر: مر بي إبراهيم بن أدهم وأنا أكسر عود حطب قد أعياني.
فقال لي: يا محمد قد أعياك.
قلت: نعم .
قال : فتأمر لنا به.
قلت: نعم.
قال: وتعيرنا الفأس.
قلت: نعم.
قال: فأخذ العود ووضعه على رقبته وأخذ الفاس ومضى، فبينا أنا على ذلك إذا أنا بالباب قد فتح, والحطب يطرح في الباب مكسراً، وألقى الفاس وأغلق الباب ومضى.
وكان إبراهيم رحمه الله إذا صلّى العشاء وقف بين يدي الدور فنادى بأعلى صوته: من يريد يطحن؟ فكانت المرأة تخرج القفة والشيخ الكبير فينصب الرحى بين رجليه فلا ينام حتى يطحن بلا كراء ثم أتى أصحابه.
يقول رفيقه: خرجتُ مع إبراهيم بن أدهم من بيت المقدس, فنفد زادنا في الطريق , فجعلنا نأكل الخرنوب وعروق الشجر، حتى خشنت حلوقنا وبلغ منا الجهد.
فقلتُ: ندخل القرية عسى نطلب عملاً، فإذا في القرية نهر فتوضأ (إبراهيم) وصفّ قدميه فدخلتُ ألتمس، فتقبّلت من قوم حائطاً قد سقط.. أجره بأربعة دراهم، فقلتُ: قد تقبلت عملاً , فجعل يعمل عمل الرجال وأعمل عملاً ضعيفاً، فجاؤنا بغداء فغسلت يدي أبادر الطعام، فقال لي: هذا في شرطك بعد ما تعالى النهار.
فقلت: لا.
قال: فاصبر حتى تأخذ كراك وتشتري.
قال: فلما فرغنا أخذنا الدراهم واشترينا وأكلنا وطعمنا ثم خرجنا، فأصابنا في الطريق الجوع فأتينا قرية من قرى حمص فإذا ساقيه ماء فتوضأ للصلاة وصف قدميه, وإذا إلى جانبنا دار فيها غرفة، فبصر بنا صاحب الغرفة حين نزلنا ولم نطعم، فبعث إلينا بجفنة فيها ثريد وخبز عراق فوضعت بين أيدينا…
فقال (إبراهيم) : مَن بعث؟.
فقلتُ: صاحب المنزل.
قال: ما اسمه؟
قلت: فلان بن فلان.
فأكل وأكلت، ثم أتينا عمق أنطاكية , وقد حضر الحصاد فحصدنا بنحو ثمانين درهماً، فقلتُ: آخذ نصف هذه وأرجع ما بي قوة على صحبته.
فقلت: إني أريد الرجوع إلى بيت المقدس.
قال: ما أنت لي مصاحباً؟
فدخل أنطاكية واشترى ملاءتين من تلك الدراهم.
فقال: إذا أتيتَ قرية كذا وكذا التي أطعمنا فيها, فَسَل عن فلان بن فلان وادفع إليه الملاءتين، ودفع إلي بقية الدراهم، وبقي ليس معه شيء، فدفعتُ الملاءتين إلى الرّجل.
فقال: مَن بعث بها.
قلتُ: إبراهيم بن أدهم.
فقال: ومَن إبراهيم بن الأدهم.
فأخبرتُه أنّه كان أحد الرّجلين اللذين بعث إليهما بالطعام، فأخذهما ومضيتُ إلى بيت المقدس. فأقمتُ حيناً فرجعتُ وسألت عن الرجل، فقيل لي: مات وكُفِن في الملاءتين.
قال أبو إسحاق الفزاري: كان إبراهيم بن أدهم في شهر رمضان يحصد الزرع بالنهار ويصلي بالليل، فمكث ثلاثين يوماً لا ينام بالليل ولا بالنهار.
يقول يعقوب بن المغيرة: كنّا مع إبراهيم ابن أدهم في الحصاد في شهر رمضان، فقيل له: يا أبا إسحاق لو دخلت بنا إلى المدينة فنصوم العشر الأواخر بالمدينة لعلنا ندرك ليلة القدر.
فقال: أقيموا ههنا وأجيدوا العمل, ولكم بكل ليلة, ليلة القدر.
رُوِي عن بعض رفقاء إبراهيم: أنّه حين عاين العدو رمى بنفسه في البحر يسبح نحوهم ومعه رجل آخر، فلما رأى العدو ذلك انهزموا.
وقال بشر الحافي، عن أبي معاوية الأسود قال: مكث إبراهيم بن أدهم يأكل الطّين عشرين يوماً.
وقال أبو إسحاق الفزاريّ: أخبرني إبراهيم ابن أدهم أنّه أصابته مجاعة بمكة، فمكث أياماً يأكل الرمل بالماء.
وعن شعيب بن حرب قال: قدم ابن أدهم مكّة، فإذا في جرابه طين فقيل له، فقال: أما إنّه طعامي منذ شهر.
قال علي بن بكار: كنا جلوساً عند الجامع بالمصيصة وفينا إبراهيم بن أدهم فقدم رجل من خراسان فقال: أيّكم إبراهيم بن أدهم؟
فقال القوم هذا. أو قال أنا هو.
قال: إنّ إخوتك بعثوني إليك. فلمّا سمع ذكر إخوته, قام, فأخذ بيده, فنحاه فقال: ما جاء بك.
قال: أنا مملوك, معي فرس, وبغلة, وعشرة آلاف درهم, بعث بها إليك إخوتك.
قال: إن كنتَ صادقاً فأنت حر, وما معك فلك, اذهب فلا تخبر أحداً، فذهب.
قال: كان لإبراهيم أخ(صديق) له من عسقلان , يقال له: أزهر فسأل عن إبراهيم, فأخبِرعنه أنّه مريض في حصين على الساحل. فأخذ أزهر كساء صوف فوضعه على رقبته, ثمّ لزم الساحل حتّى أتاه فوجده مريضاً, وإذا هو على بارية ليس تحته شيء.
فقال له: يا أبا إسحاق أحِبّ أن تأخذ هذا الكساء, فتضع نصفه تحتك, ونصفه فوقك… لو فعلتَ سررتني, فقد غمّني.
قال إبراهيم: وقد غمك؟
قال: نعم.
قال : ضعه.
فوضعتُه, ومضيتُ مخافة أن يبدو له..
قال أزهر: فجاء بعد أيام فرفع ردائي ودسّ تحته شيئاً ومضى، فأرفع ردائي, فإذا عمامة قطن جديدة, قد لفّها على نعل جديدة، فمضيتُ حتّى لحقته خارجاً من المدينة..
فقال إبراهيم: هكذا أدركتُ النّاس يأخذون ويعطون، إنصرف بما معك, فانصرفتُ.
حكى أبو خالد بن يزيد بن سفيان أنّ إبراهيم بن أدهم كان قاعداً في مشرفة بدمشق، إذ مرّ به رجل على بغلة.
فقال له: يا أبا إسحاق إن لي إليك حاجة أحب أن تقضيها.
فقال إبراهيم: إن أمكنني قضيتُها وإلّا أخبرتك بعذري.
فقال له: إنّ برد الشام شديد، وإنّي أريد أن أبدل ثوبيك هذين بثوبين جديدين.
فقال إبراهيم: إن كنتَ غنياً قبلتُ منك، وإن كنتَ فقيراً لم أقبل منك.
فقال الرجل: أنا والله كثير المال كثير الضياع.
فقال له إبراهيم: فأين أراك تغدو وتروح على بغلتك.
قال: أعطي هذا، وآخذ من هذا، وأستوفي من هذا.
فقال له إبراهيم: قم فإنّك فقير, تبتغي الزيادة بجهدك.
مرّ إبراهيم بغلام معه تين في بنيقة.
فقال: أعطنا بدانق من هذا، فأبى عليه، فمضى إبراهيم .
ونظر رجل إلى صاحب التين فقال له: إيش قال لك هذا الرجل.
فقال: قال لي أعطني من هذا التين بدانق.
قال: الحقه فادفع إليه ما يريد وخذ مني الثمن، فلحقه، فقال: يا عم خذ من هذا التين ما تريد، فالتفت إبراهيم فقال: لا نبتاع التين بالدين.
روى أبو حفص عمر بن عيسى، عن أبيه قال: خرجتُ مع إبراهيم بن أدهم إلى مكة – وكان إبراهيم إذا خرج إلى مكة لم يأخذ على الطريق – قال: وكنّا أربعة رفقاء فسرنا على غير الطريق حتى جئنا إلى المدينة.
قال: فاكترينا بيتاً بالمدينة ونزلنا فيه، فقال إبراهيم: نحن أربعة خدمة البيت, وما يصلحنا لمعاشنا وإفطارنا وحوائجنا كل يوم على رجل منا، والثلاثة يذهبون إلى المسجد وينتشرون في حوائجهم “قبا” و “مقابر الشهداء”..
قال: فإنّا ليوماً جلوس في البيت إذ أقبل رجل آدم عليه قميص جديد , وفى رجله خفّ, وعليه عمامة, ومعه مزود يحمله, فدخل إلينا وسلّم، وقال:
أين إبراهيم؟
قلنا: هذا منزله وقد ذهب في حاجة , فمضى ولم يكلّمنا.
فرجع إبراهيم والرجل معه والمزود على عنقه .. فكان معنا في البيت أياماً فإذا حضر غداء أو عشاء تنحى الرجل ناحية وخلا بمزوده , وأقبلنا نحن على غدائنا أو عشاءنا، وإبراهيم في كل ذلك لا يدعوه ولا يسأله أن يأكل معنا..
فلما كان بعد ثلاث، قال لإبراهيم: إني أريد الخروج.
قال له إبراهيم: فمتى عزمت؟
قال: الليلة.
ثمّ خرج فذهب, وذهب معه إبراهيم .
قال بعض أصحابنا: إنّ هذا الرجل له قصة، إبراهيم لا يدعوه ولا يأكل معنا وهو مقبل على هذا المزود، والله لأفتحنّه فأنظر أيّ شيء فيه, ففتحه فإذا فيه عظام!… فشدّه وجاء الرجل فأخذ المزود وأنكر رباطه.. فنظر في وجوهنا ومضى، فلمّا أن ذهب قال بعضنا لإبراهيم: يا أبا إسحاق هذا الرجل الذي كان عندنا ما كان أعجب أمره ما كان يأكل معنا وما كنت تدعوه، ولقد ذهب فلان فنظر في مزوده فإذا فيه عظام!.
فتغيّر وجه إبراهيم وأنكر ذلك على الرجل وقال: ما أحسبك تصحبني في سفر بعد هذا، لم نظرت في مزوده؟ ذاك رجل من الجن وأخانا في الله، فليس من بلد أدخله إلّا جاءنا فكان معي فيه يؤنسني ويعينني ثم ينصرف..
فمات الرجل الذي نظر في مزوده بالمدينة.
قال جسر: حججتُ مع إبراهيم سنة خمسين ومائة , فلقيه شيخ طوال عليه قميص وكساء، وعلى عاتقه عصا معلق فيها خريطة، فسلم على إبراهيم ثم جعل يسايرنا في ناحية من الطريق، فإذا نزلنا منزلاً نزل إلى جانب منّا، فقال لنا إبراهيم: لا يكون أحد منكم يكلمه ولا يسأله ولا يسائله عن شيء , ولا مَن هو، فلما دخلنا مكة نزلنا بدار, فعمد إلى رواق من أقصى الدار فجعل عصاه في كوة وعلق خريطه فيها، فكنّا إذا دخلنا خرج، وإذا خرجنا دخل، فأصابني وجع في بطني فتخلّفتُ عن أصحابي, فبينا أنا في المخرج و سترته جريد, إذ دخل فبصر فلم ير أحداً، فأخذ الخريطة ففتحها فإذا فيها بَعر فجعل يأكل منه، فتنَحنَحتُ , فنظر إلي, فأخذ خريطة وعصاه وانطلق …
فظنّ (إبراهيم) أنّ أحدنا كلّمه,  فأخبرتُه الخبر.
فقال إبراهيم: هذا من الجنّ الذين وفدوا على النّبي صلّى الله عليه وسلم وكانوا سبعة قراء، ثلاثة من نصيبين وأربعة من نينوى، لم يبق منهم غيره، وهو يلقاني في كل سنة فيصحبني حتّى أنصرف.
قال جامع بن أعين: غزونا مع إبراهيم بن أدهم فأصابنا ثلج كثير حتى غلب على الخيل والأخبية، فقام إبراهيم فالتف بعباءة وألقى نفسه فركبه الثلج, وخرجنا نحن هاربين مخافة أن يغمرنا الثلج, وتركنا رحالنا، فلما أصبحنا التفت بعضنا فقال: ويحكم قد أقبلت خيل، فبادرنا إلى شجرة نختبىء فيها، فقلنا: العدو قد جاءنا، ومعنا علي بن بكار، فقال علي: تثبّتوا، أنظروا ما هذه الخيل؟
فأشرف قوم منّا الجبل، فقالوا:يا أبا الحسن خيل قد أقبلت بسروجها ليس عليها ركاب، وخلفها فارس يطردها بقناته.
فقال علي: ويحكم فإنّه إبراهيم بن أدهم، أنزلوا لا نفتضح عنده مرتين، فإذا إبراهيم بن أدهم بالخيل ثلاثمائة وستين فرساً، فاستقبلناه.
فقال لنا:جاءتكم الشهادة ففررتم.
فقال لنا علي بن بكار: إنّه دعا الله فجمد الثلج, فأعانه على سوق الخيل.
جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم يريد صحبته، فقال له إبراهيم: ما معك؟
فأخرج دراهم, فأخذ منها إبراهيم دراهم، فقال: اذهب فاشتر لنا موزاً.
فقال الرجل: موزاً بهذا كله؟!!.
قال إبراهيم: ضم دراهمك وامض، ليس تقوى على صحبتنا.
قال إبراهيم بن بشار: سمعتُ إبراهيم بن أدهم، يقول هذا ويتمثل به إذا خلا في جوف الليل بصوت حزين موجع للقلوب:
ومتى أنت صغيراً وكبيراً أخو علل … فمتى ينقضي الردى ومتى ويحك العمل
ثم يقول: يا نفس إياك والغرة بالله، فقد قال الصادق: ” لا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ” . (لقمان 33) .
وقال أبراهيم: مررت في بعض بلاد الشام فإذا حجر مكتوب عليه بالعربية:
كلّ  حيّ  و إن  بقي *  فمن  العيش   يستقي
فاعمل اليوم واجتهد * واحذر الموت يا شقي

قال: فبينا أنا واقف أقرأ وأبكي، وإذا برجل أشعر أغبر، عليه مدرعة من شعر، فسلم وقال: ممّ تبكي ؟
فقلتُ: مِن هذا. (قرأتُ هذا النقش فأبكاني)
فأخذ بيدي ومضى غير بعيد, فإذا بصخرة عظيمة مثل المحراب , فقال: اقرأ وابك ولا تقصر.
وقام هو يصلي, فإذا في أعلاه نقش بيّن عربي:
لا تبغين جاها وجاهك ساقط * عند المليك وكن لجاهك مصلحا

وفي الجانب الآخر نقش :
من لم يثق بالقضاء والقدر * لاقى هموما كثيرة الضرر

وفي الجانب الايسر منه نقش بين عربي:
ما أزين التقى وما أقبح الخنا * وكل مأخوذ بما جنا وعند الله الجزا

وفي أسفل المحراب فوق الارض بذراع أو أكثر:
إنّما الفوز والغنى * في تقى الله والعمل

قال: فلما فرغت من القراءة التفتُ فإذا ليس الرجل هناك، فما أدري انصرف أم حجب عنّي.
وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الابيات:
لما توعد الدنيا به من شرورها * يكون بكاء الطفل ساعة يوضع
إذا أبصر الدنيا  استهل  كأنّما  * يرى ما سيلقى مِن أذاها ويسمع

وكان يتمثل أيضا:
رأيت الذنوب تميت القلوب * و يورثها الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب * وخير لنفسك عصيانها
وما أفسد الدين  إلّا  ملوك *  وأحبار سوء ورهبانها
وباعوا النفوس فلم يربحوا *  ولم يغل بالبيع أثمانها
لقد  رتع القوم  في  جيفة  *  تبيّن  لذي اللب أنتانها

يقول إبراهيم: نظرتُ إلى قاتل خالي بمكة, قتله وهو ساجد.
فوجس في قلبي عليه شيء، فلم أزل أدير قلبي حتّى أجاب أن لقيته, فسلمتُ عليه, واشتريتُ له طبقا من لطف, فأهديت إليه … فسل ذلك عن قلبي.
رأى إبراهيم بن أدهم رجلا يحدث, (يعني من كلام الدنيا) فوقف عليه فقال له: كلامك هذا ترجو فيه؟
قال: لا .
قال: فتأمن عليه .
قال: لا.
قال: فما تصنع بشيء لا ترجو فيه ولا تأمن عليه؟
قال بقية بن الوليد: صحبت إبراهيم بن أدهم في بعض كور الشام، وهو يمشي ومعه رفيقه، فانتهى إلى موضع فيه ماء وحشيش، فقال لرفيقه: أترى معك في المخلاة شيء؟
قال: معي فيها كسر، فنثرها فجعل إبراهيم يأكل، فقال لي يا بقية أدن فكل، قال: فرغبت في طعام إبراهيم فجعلت آكل معه … ثمّ إنّ إبراهيم تمدد في كسائه فقال: يا بقية ما أغفل أهل الدنيا عنا، ما في الدنيا أنعم عيشا منا، ما أهتم بشيء إلّا لأمر المسلمين، ثم التفت إلي فقال: يا بقية لك عيال؟
قلت: أي والله يا أبا إسحاق إنّ لنا لعيالاً … فكأنه لم يعبأ بي، فلما رأى ما بوجهي قال: ولعل روعة صاحب عيال أفضل مما نحن فيه.
قال أبو سليمان الداراني: صلّى إبراهيم بن أدهم خمس عشرة صلاة بوضوء واحد.
قال عيسى بن خازم: كنتُ مع إبراهيم بن أدهم بمكة إذا لقيه قوم قالوا: أجرك الله، مات أبوك.
قال: مات؟
قالوا: نعم!
قال: إنّا لله وأنا إليه راجعون. رحمه الله.
قالوا: قد أوصى إليك وقد ضجر العامل جمع ما خلف .
فسبقهم إلى البلد فأتى العامل.
فقال: أنا ابن الميت.
فقال: ومن يعلم؟
قال: السلام عليكم، وخرج يريد مكة.
فقال الناس للعامل: هذا إبراهيم بن أدهم، ألحقه لا تكون أغضبته فيدعو عليك، فلحقه وقال: ارجع واجعلني في حل، ما عرفتك، قال: قد جعلتك في حل من قبل أن تقول لي، فرجع وأنفذ وصايا أبيه، وقسم نصيبه على الورثة، وخرج راجعاً إلى مكة.
قال فارس النجار: بلغني أنّ إبراهيم بن أدهم رأى في المنام كأنّ جبريل عليه السلام قد نزل إلى الأرض، فقال له: لم نزلت إلى الأرض؟
قال: لأكتب المحبين.
قال: مثل من؟
قال: مثل مالك بن دينار، وثابت البناني، وأيوب السختياني، و عدّ جماعات.
قال: أنا منهم؟
قال: لا.
فقلت: فإذا كتبتَهم فاكتب تحتهم محبّ للمحبين.
فنزل الوحي: اكتبه أولهم.
وقال حذيفة المرعشي: صحبت إبراهيم بن أدهم بالبادية في طريق الكوفة … فبقينا بالبادية حتى بليت ثيابنا، فدخلنا الكوفة وآوينا إلى مسجد خراب ، وكان قد مضى علينا أيام لم نأكل فيها شيئا، فقال لي: كأنك جائع.
قلت: نعم.
فأخذ رقعة فكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم أنت المقصود إليه بكل حال، المشار إليه بكل معنى:
أنا حامد  أنا  ذاكر  أنا  شاكر  *  أنا  جائع  أنا حاسر  أنا عاري
هي ستة وأنا الضمين  بنصفها *  فكن  الضمين لنصفها يا باري
مدحي لغيرك وهج نار خضتها *  فأجر  عبيدك  من دخول  النار

ثم قال لي: أخرج بهذه الرقعة, ولا تعلق قلبك بغير الله سبحانه وتعالى، وادفع هذه الرقعة لأوّل رجل تلقاه.
فخرجتُ فإذا رجل على بغلة فدفعتُها إليه, فلمّا قرأها بكى ودفع إلي ستمائة دينار وانصرف، فسألتُ رجلا مَن هذا الذي على البغلة ؟
فقالوا: هو رجل نصراني.
فجئت إبراهيم فأخبرته .
فقال: لا تمسه فإنه يجيء الساعة.
فما كان غير قريب حتى جاء, فأكبّ على رأس ابراهيم وأسلم. وصار صاحباً لإبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى.
وخرج ابن أدهم من بيت المقدس فمر بطريق فأخذته المسلحة في الطريق فقالوا: أنت عبد ؟
قال: نعم.
قالوا: آبق ؟
قال: نعم.
فسجنوه.
فبلغ أهل بيت المقدس خبره فجاؤوا برمتهم إلى نائب طبرية.
فقالوا: علام سجنت إبراهيم بن أدهم ؟
قال: ما سجنته.
قالوا: بلى هو في سجنك.
فاستحضره فقال: علام سجنت؟.
فقال: سل المسلحة، قالوا: أنت عبد ؟ قلت: نعم وأنا عبد الله.
قالوا: آبق ؟ قلت: نعم وأنا عبد آبق من ذنوبي.
فخلى سبيله.
و روي أنه كان يصلي ذات ليلة فجاءه أسد ثلاثة, فتقدم إليه أحدهم , فشمّ ثيابه ثم ذهب, فربض قريبا منه، وجاء الثاني ففعل مثل ذلك، وجاء الثالث ففعل مثل ذلك، واستمر إبراهيم في صلاته، فلما كان وقت السحر قال لهم: إن كنتم أمرتم بشئ فهلمّوا، وإلا فانصرفوا، فانصرفوا. وركب مرة سفينة فأخذهم الموج مِن كلّ مكان, فلفّ إبراهيم رأسه بكسائه واضطجع, وعج أصحاب السفينة بالضجيج والدعاء، وأيقظوه وقالوا: ألا ترى ما نحن فيه من الشدة ؟
فقال: ليس هذه شدة، وإنما الشدة الحاجة إلى الناس.
ثم قال: اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك.
فصار البحر كأنه قدح زيت. وكان قد طالبه صاحب السفينة بأجرة حمله, دينارين, وألحّ عليه، فقال له: اذهب معي حتّى أعطيك ديناريك، فأتى به إلى جزيرة في البحر, فتوضأ إبراهيم وصلى ركعتين ودعا, وإذا ما حوله قد ملئ دنانير، فقال له: خذ حقك, ولا تزد, ولا تذكر هذا لأحد. وشكى إليه رجل كثرة عياله فقال: ابعث إلي منهم مَن لا رزقه على الله. فسكت الرجل.

وفاته:
قال البخاري: مات سنة إحدى وستين ومائة، وقال ابن يونس: سنة اثنتين وستين ومئة
قيل: ودفن بسوقين حصن ببلاد الروم.
قيل: غزا في البحر مع أصحابه, فاختلف في الليلة التي مات فيها إلى الخلاء خمساً وعشرين مرة, كل مرة يجدد الوضوء, فلما أحس بالموت قال: أوتروا لي قوسي، وقبض عليها , وتوفي وهي في كفه, فدفن في جزيرة في البحر في بلاد الروم.
قال أبو داود سليمان بن الأشعث: سمعت أبا توبة الربيع بن نافع يقول: مات إبراهيم بن أدهم سنة اثنتين وستين ومائة، ودفن على ساحل البحر.
رحمه الله تعالى.

رثاءه:
قال في رثاءه محمد بن كناسة (واسم كناسة: عبد الله. قيل: هو ابن أخت إبراهيم ابن أدهم) :
رأيتك لا يكفيك كما دونه الغنى … وقد كان يكفي دون ذاك  ابن  أدهما
أخالك  يحمي  سيفه  و  لسانه   …  حمال  ولا يفنى  لك الدهر  مجرما
وكان  يرى الدنيا صغيراً كبيرها …  و كان  لحق  الله   فيها     معظما
يشيع  الغنى  أن ناله  و  كأنما   …   يلاقي به البأساء عيسى بن مريما
وللحلم سلطانٌ على  الجهل عنده …   فما يستطيع  الجهل  أن  يترمرما
وأكثر ما  يلقى  من القوم صامتاً …   فإن   قال   بذّ   القائلين  و أحكما
يرى مستكيناً  خاشعاً  متواضعاً …    و ليثاً  إذا  لاقى  الكريهة ضيغما

الكاتب: الشيخ أبو محمد البلوشي

**********************************
من مراجع البحث:

تبصير المنتبه بتحرير المشتبه – ابن حجر العسقلاني(ج 1 / ص 94)
وفيات الأعيان – ابن خلكان (ج 1 / ص 31)
غاية النهاية في طبقات القراء – ابن الجزري (ج 1 / ص 115)
الوافي بالوفيات – الصفدي (ج 2 / ص 207)
المستفاد من ذيل تاريخ بغداد – ابن الدمياطي (ج 1 / ص 31)
مشاهير علماء الأمصار – ابن حبان (ج 1 / ص 290)
تهذيب التهذيب – ابن حجر العسقلاني (ج 1 / ص 89)
الأعلام للزركلي – (ج 1 / ص 31)
تهذيب الكمال – المزي (ج 2 / ص 33)
الجرح والتعديل – الرازي (ج 2 / ص 87)
طبقات الحنابلة – ابن أبي يعلى (ج 1 / ص 171)
مختصر تاريخ دمشق – ابن منظور (ج 1 / ص 451)
البداية والنهاية –  ابن كثير (ج 10 / ص 144)
تاريخ الإسلام للذهبي – (ج 3 / ص 190)
حلية الأولياء – أبو نعيم الأصفهاني (ج 3 / ص 330)
سير أعلام النبلاء – للإمام الذهبي (ج 13 / ص 434)
مشاهير أعلام المسلمين /علي بن نايف الشحود.
عيون الأخبار – ابن قتيبة الدينوري (ج 1 / ص 275)
العبر في خبر من غبر – للذهبي (ج 1 / ص 44)
المدهش – ابن الجوزي (ج 1 / ص 55)