- سني أون لاین - http://sunnionline.us/arabic -

حصار غزة اختبار لغيرة المسلمين

gaza11إن الغيرة من أعظم مواهب الله تعالى ومن أسمى الأخلاق التي تكتسب بها الحياة الإنسانية الحرارة والحيوية واللذة والعزة والكرامة، وتدفع المجتمع البشري إلى الثورة ضد الظلم والجور.

روى المؤرخ الكبير ابن الأثير رحمه الله في “الكامل” أن في سنة ثلاث وعشرين ومائتين أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل ملطية من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة، قتل فيها خلقا كثيرا من المسلمين وأسر ما لا يحصون كثرة، وكان من جملة من أسر ألف امرأة من المسلمات ومثل بمن وقع في أسره من المسلمين، فقطع آذانهم وأنوفهم، وسمل أعينهم، قبحه الله. فلما بلغ المعتصم ذلك استعظمه، وكبر لديه، وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت، وهي أسيرة في أيدي الروم: “وامعتصماه!” فأجابها وهوجالس على سريره: “لبيك لبيك!” ونهض من ساعته، وصاح في قصره: “النفير النفير”، ثم ركب دابته، وسمط خلفه شِكالا وسكة حديد، وحقيبة فيها زاده، فلم يمكنه المسير إلا بعد التعبئة، وجمع العساكر، وتجهز جهازا لم يجهزه أحد كان قبله من الخلفاء، وأخذ معه من آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب والدواب والنفط والخيل والبغال شيئا لم يسمع بمثله، وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال، وقد ركب ملك الروم في جيشه فقصد نحو المعتصم، فتقاربا حتى كان بين الجيشين نحو من أربعة فراسخ وقتل من الروم خلقا وجرح آخرين وتغلب على ملك الروم  وفتح عمورية التي كانت من أمنع بلادهم.(البداية والنهاية والكامل في التاريخ)
روى البلاذري أيضا في كتابه الشهير في فتوح البلدان قصة صرخة استغاثة إمرأة مسلمة أخرى مشابهة للتي مرت يقول: “أهدى إلى الحجاج في ولايته ملك جزيرة الياقوت نسوة ولدن في بلاده مسلمات ومات أباؤهن، وكانوا تجارا. فأراد التقرب بهن، فعرض للسفينة التى كن فيها قوم من ميد الديبل في بوارج، فأخذوا السفينة بما فيها. فنادت امرأة منهن، وكانت من بنى يربوع، يا حجاج ! وبلغ الحجاج ذلك.
فقال: يا لبيك ! فأرسل إلى داهر يسأله تخلية النسوة. فقال: إنما أخذهن لصوص لا أقدر عليهم. فأغزى الحجاج عبيد الله بن نبهان الديبل، فقتل. فكتب إلى بديل بن طهفة البجلي وهو بعمان يأمره أن يسير إلى الدبيل. فلما لقيهم نفر به فرسه فأطاف به العدو فقتلوه. وقال بعضهم: قتله زط البدهة. ثم ولى الحجاج محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبى عقيل في أيام الوليد بن عبد الملك فغزا السند”.
والتاريخ الإسلامي حافل بمثل هذه المآثر والبطولات والمغامرات التي تجلت فيه الغيرة الدينية والحمية الإسلامية. ولا شك أن مثل هذه المغامرات تحققت في عصر كانت السيطرة فيه للحمية الإسلامية والغضب للحق والانتصار للمظلوم والأخذ على يد الظالم، وكان رؤساء البلاد الإسلامية ووزرائهم وعساكرهم والذين يتولون أمورهم يعتبرون أنفسهم حماة للإسلام والمسلمين، يجازفون في سبيل حماية فرد ضعيف، وفي سبيل عجوز بائسة بحياتهم وملكهم، ويشعرون بالمسئولية تجاه عزة كل فرد مسلم وكرامته، وكان الدفاع عن كرامة إمرأة مسلمة تعتبر مسئولية إسلامية كبيرة. ولقد أحسن العلامة أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله التعبير عندما قال: “كان المجرمون يعتقدون أن الاعتداء على المسلم إثارة ليوث الغاب، وتحريك خلايا للنحل الحانقة الموتورة، لا تهدأ حتى تنتقم لصاحبها، وأنها لا ينجو منها العدوالمثير في بر ولا بحر”.
لا يخفى على القارئ الكريم أن كلا من الحجاج والمعتصم الذين مضى ذكرهما كانا من الحكام الذين روى التاريخ عنهم كل فضيحة وشائنة، ولم يعدوا قط في طبقة الصالحين الأبرار، أو العادلين الأخيار، ولم يزعموا لأنفسهم فضلا في دين أو علم. بل اعترفوا بذنوبهم، وأقروا بخطاياهم، بلغت بهم الحمية الإسلامية، إلى أن أرسلوا جيوشا كثيفة، يقودها أفضل قادة لهم لحماية بيت من بيوت المسلمين. وكانت الحمية الدينية والغيرة الإسلامية والشعور بالمسئولية في الدفاع عن الضعفاء تملأ جوانح أناس مثل الحجاج والمعتصم، وتخلق الغرائب والعجائب في تاريخنا الديني والإسلامي.
gaza22أما اليوم فبمسمع ومرأى من عشرات من الحكام ومئات من الوزراء والأحزاب الإسلامية والشعوب المسلمة، تراق دماء الشعب الفلسطيني العزل، وتهان كرامتهم الإنسانية، ويقتل آلاف من الأبرياء والأطفال الصغار، وتحرق  ألوف من البيت، وتنتهك أعراض النساء العفيفات، وتبث صرخاتهم واستغاثاتهم في وسائل الإعلام، لكنها لا تحرك ساكنا ولا تؤلم ضميرا ولا تثير حمية ولا غيرة. ومما يزيد الجرح ألما أن هذه الاعتداءات والإجرامات أصبحت من الأمور العادية التي لا ينكرها أحد مع مر الزمن، وقد دفع عدم إنكار هذه الإجرامات وعدم المبالاة بها، عواملها إلى التجرأ على إرتكاب المزيد من الجرائم والتعديات بحق الشعوب المسلمة المضطهدة.
لقد شهد العالم أن أهل غزة تعرضوا بعد مقاومتهم البطولية والحرب المدمرة التي استمرت 22يوما، لحصار شامل غاشم يتولى كبره أذناب الصهاينة المحتلين الغاصبين في العالم، وقد أغلقت جميع طرق المواصلات البرية والبحرية عليهم، لوصولهم على المواد الغذائية والطبية والمعونات الغذائية، ولا تخطوالمنظمات الحقوقية الدولية التي تدعى الدفاع عن حقوق الإنسان خطوة لكسر هذا الحصار المغاير لحقوق البشر.
في مثل هذه الأوضاع المؤسفة، تعتبر مبادرة مؤسسة الإغاثة الإنسانية التركية بدعم من قبل دولة وبرلمان تركيا ورئيس وزرائه المسلم “رجب طيب أردوغان”، في تجهيزعدة سفن إغاثة باسم “أسطول الحرية” تحمل مواد إغاثة ومساعدات إنسانية إلى غزة، خطوة محمودة عظيمة. وإن شهد العالم قبيل وصول هذه القافلة إلى سواحل غزة، كيف هجمت عليها  البحرية الإسرائيلية التي تلقت أوامر مباشرة من الجيش الإسرائيلي ودولة الإحتلال، وأقاموا مجزرة بشعة على متن السفينة، واعتقلوا كل من على متن السفن من الناشطين والحقوقيين وصادروا المعونات الغذائية كلها.
فالشعب الفلسطيني وأهل غزة، لم يكونوا يوما يرجون من المنظمات التي تدعي حماية حقوق الإنسان كذبا وزورا، ومن أعداء الإسلام والمسلمين شيئا، ولكنهم ينتظرون نصر أهل الإيمان وحمايتهم دائما.”إن استنصروكم في الدين فعليكم النصر”.
وإن هذه الظروف تتطلب أن ينهض المصلحون والدعاة لصحوة شعوبهم؛ وينهض الشباب الغيورون، ويصحوا عن غفلتهم والتأثر بثقافة الأجانب؛ ويخطوا واعين نحو اليقظة. وليعجل مشفقوا العالم الإسلامي إلى نصرة المظلومين ولا يدعو الغيرة الدينية تدفن، ولا الشعور بالمسؤولية يموت تماما، ولا يسمحوا أن تهدر الكرامة الإنسانية، وأن يرقص الطغاة والمعتدون أكثر من هذا على أعناق المظلومين ويزدادوا جراءة وشجاعة على هذه الأمة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الكاتب: فضيلة المفتي محمد قاسم القاسمي (رئيس تحرير مجلة نداء الإسلام)
تعريب: أبو عبد الله