- سني أون لاین - http://sunnionline.us/arabic -

قبسات من حياة المفتي خدانظر رحمه الله (المفتي السابق بجامعة دار العلوم زاهدان)

mufti-khodanazarسنة 1342هـ.ق. ولد طفل في أسرة متواضعة ملتزمة بالتدين والعلم في إحدى قرى “زابل” (من المدن الشمالية في محافظة سيستان وبلوشستان) وكان يذهب ليكون في المستقبل القريب من أبرز علماء المنطقة ويمتع أهل هذه المنطقة الواسعة بضياء الفقه وحكم الشريعة.

لقد سمى الأبوان هذا المولود المبارك بـ “خدانظر” وهو اسم يعني أن الله تعالى نظر إليهم نظرة لطف وكرم وأعطاهما هذا الولد. ولم يكن أحد يدري في تلك الآونة المكانة التي سوف يكتسبها  هذا الطفل في المجتمع. فكان من قضاء الله وتقديره أن ينتفع به مجتمع لم يكن لهم صلة كبيرة قديمة بالعلم والفقه، ويتلمذ عليه مجموعة كبيرة من التلاميذ في القادم القريب؛ فحدى به التقدير المحتوم إلى مكتب القرآن الكريم وتعلم العلوم الشرعية، ليتعرف بأنوار هذا الكتاب القيم منذ نعومة أظفاره.

رحلته للتعلم:
تعلم الشيخ “خدا نظر” رحمه الله، العلوم الإبتدائية في منطقة “نيمروز” (من الولايات الجنوبية في أفغانستان تسكنها قبائل البلوش) في أفغانستان، لكنه لما شعر بعطش زائد في طلبه للعلم، ورآى في نفسه ظمأ للتلمذ على كبار العلماء في العالم الإسلامي، سافرإلى مدينة  “كويتا” عاصمة بلوشستان الباكستانية. ومن هنا سافر إلى “سبي” و”مستونك” ليتلمذ على الشيخ محمد يوسف البنوري والشيخ إدريس الكاندهلوي (وهما من أكبر علماء باكستان المعاصرين الذين هاجروا إلى هذه البلاد بعد انفصال باكستان من الهند). وبعد إقامته وانتفاعه بهذين العالمين، رجح رحمه الله أن يتوجه نحو مدينتي “لاركانه” و”لاهور” في إقليم بنجاب. وفي نهاية المطاف استقر في  “ملتان” لتكون “ملتان” هي غاية له من هذه الرحلة الطويلة الشاقة، وصار تلميذا ومرافقا لفضيلة الشيخ العلامة الفقيه السياسي المحنك المفتي محمود رحمه الله مؤسس مدرسة “قاسم العلوم”.
مكث رحمه الله في هذه المدرسة وانتفع بعلوم المفتي محمود رحمه الله، وكانت نتيجة هذا الثبوت والمكث والمدوامة هي تقدمه في الفقه والعلوم الشرعية كلها، وصار مصداقا  لمقولة الإمام أبوحنيفة رحمه الله: “من ثبت نبت، فثبت عند حماد بن سليمان فنبت”.

مشائخه:
لقد تلمذ رحمه الله في جولته الطويلة في سبيل العلم على عدد كبير من أهل العلم، ومن أبرزهم كما مر آنفا  ذكره الشيخ المفتي محمود رحمه الله العالم والفقيه السياسي البارع في باكستان، حيث درس الشيخ “خذانظر” عليه كتبا كبيرة مثل الجامع الصحيح للإمام البخاري، والترمذي، والهداية للعلامى المرغيناني، والتوضيح والتلويح، والتصريح، والأمور العامة، وملاصدرا الشيرازي، والشمس البازغة، والدر المختار.)
قد كان الشيخ “خدا نظر” يناقش أساتذته في المسائل ويطرح أسئلة عديدة واعتراضات كثيرة. وقد حاز مرتبة الشرف من بين زملائه في الدراسة، حيث سجلت في وثيقة وشهادة تخرجه “له ملكة لا توجد عند غيره” ولم يسجل هذه الجملة في وثيقة غيره من زملائه ومن عاصره في التعلم إلا في وثيقة تخرج الشيخ العلامة “موسى خان البازي” رحمه الله تعالى.

المفتي رحمه الله على كرسي التدريس:
في البداية طلب منه أستاذه الشيخ “غلام رسول عباسي” رئيس مدرسة “دارالفنون” أن يحضر إلى هذه المدرسة في “لاركانه”، فمكث فيها مدة اشتغل فيها بأمر التعليم، ثم ذهب إلى كويتا عاصمة إقليم بلوشستان الباكستانية واشتغل هنا أيضا بالدراسة لمدة سنوات، إلى أن ألح عليه  الشيخ “عبد العزيز ملازاده” رحمه الله، ليأتي إلى جامعة دارالعلوم بزاهدان، فجاء الشيخ خدانظر رحمه الله إلى زاهدان  وتولى الإفتاء واشتغل بالتدريس في جامعة دارالعلوم إلى أن توفي رحمه الله.

براعته في الفقه:
كان رحمه الله يملك فهما واسعا في الفقه، وكانت حلقات دروسه تمتاز بأنه لم يكن يترك مجالا للاعتراض لأحد عندما كان يطرح مسئلة فقهية ويطرح فيها آراء المذاهب المختلفة وآراء الأئمة الفقهاء، ويقوم بترجيح رأي على آخر، وربما كان يترك كثيرا من المسائل للنقد، فيورد عليها اعتراضا من غير أن يتطرق إلى جوابها أو يذكر رأيها في تلك المسئلة تشحيذا لأذهان الطلبة  وترغيبا لهم للبحث المزيد، إضافة إلى هذا فكانت حلقات تدريسه تمتاز في الفقه بسمة قلما نجدها في حلقات غيره وهي طرح القواعد الكلية وشرحها في المذهب أولا ثم توضيح المسائل الجزئية بناء على تلك القواعد.

الدقة والتأني في الإفتاء:
لم يكن رحمه الله يوقع على مسئلة من مسائل الفتوى والأحكام  إلا بعد حذر شديد ودقة بالغة وتيقن بمدارك المسئلة وفهم صورتها فهما دقيقا. لذك كان يقضي معظم أوقاته وساعاته في المطالعة وتقليب صفحات الكتب، و لطالما يغلبه النوم وهو غارق في المطالعة أو باحث في مسئلة أو قضية فقهية من القضايا. وكان منهجه في الإفتاء أنه لم يكن يقبل بما ورد في الكتب الفقهية حتى يتضح له دليل تلك الأحكام اتضاحا لا يشوبه شك. وكان يوصي دائما تلامذته بأن لا يقبلوا مسئلة من غير دليل.

حسن معاملته مع الطلبة والضيوف:
من خصائصه رحمه الله أنه كان يتفقد أحوال الطلبة ومشاكلهم ويحب معيتهم، وإذا غاب طالب  من الصف وله معرفة أو صلة بالأستاذ المفتي رحمه الله، كان يسئل عنه وعن سبب تغيبه، ويلح على ذلك حتى يقتنع، كما أنه كان يشاركهم في الحفلات المختلفة. وإذا وضع له طعام أو شراب أحب أن يشارك واحدا من الطلبة.
وعند حضور أحد من أهل العلم أو من كان له أدنى معرفة بالأستاذ المفتي رحمه الله، كان رحمه الله يبادر إلى إكرامه وإحترامه بما تيسر له، وينفق في ذلك من نخاصة ماله، ولم يكن يقبل ذلك من غيره.

تفقد الطلبة المساكين وإعانتهم:
من أبرز سمات الشيخ المفتي رحمه الله أنه كان يتفقد الطلبة المساكين والفقراء في جامعة دارالعلوم بزاهدان، فيتعرف عليهم جميعا ويعينهم بالمال مما يكفيهم. كما أنه إذا وصله نبأ بأن طالبا في الجامعة يحتاج إلى مال، كان ينفق عليه من ماله شفقة وحبا لهم.

سعة الأفق ورحابة الصدر:
خلافا لكثير من أهل الفقه وعادة دارسي الفقه الإسلامي الذين  لا يكادون يتحملون رؤية من يخالفهم في الرأي والنظر، كان العلامة رحمه الله يمتاز بسعة الأفق ورحابة الصدر في تحمل مخالفيه، وإن كانوا من المبالغين في المخالفة والطاعنين فيه وفي آرائه. فكان الخلاف دائما لم يكن يتعدى دائرة النظر والرأي  في المسئلة.

الورع والزهد:
لقد كان رحمه الله أسوة ومثلا في الزهد والورع والتقشف في المعيشة، وقد يندر أمثاله ممن يعيشون في عصرنا بأدنى وسائل المعيشة وإمكانياتها. فكل ما خلفه رحمه الله من مال الدنيا بعد وفاته بذلتين من الثياب ونظارتين وعصا كان يتوكأ عليها ونعلين وشمامة أفغانية يستعملها في الشتاء، وبعض الكتب.

الوعي السياسي للأوضاع الراهنة:
كان الشيخ المفتي رحمه الله يتابع دائما القضايا السياسية والأخبار من غير تعب، وكانت له تحليلات رائعة  وآراء قوية حول شتى القضايا السياسية وأوضاع المجتمع. مع ذلك كان يفضل دائما عدم الخوض في معترك القضايا السياسية. وكان شجاعا لا يعرف الهوادة في أصعب الأحوال والظروف. ولم يكن يكتم الحق بسبب مكانة أو وجهة الأشخاص والشخصيات.

آثاره وتصانيفه:
كتب رحمه الله رسائل تحقيقية كثيرة تدل على غزارة علمه وسعة فهمه. نشير إلى بعضها هنا. فمن رسائله:
1-    رسالة إرشاد الحيران في حشو الأسنان (رسالة تبحث عن مسئلة تعبئة الأسنان بالمواد الكيمياوية والأحكام المتعلقة)  
2-    “بيع الوفاء” (هذه رسالة حول الرهن والسلف في كراء المنازل)
3-    “الكلمات الطيبات في اتخاذ الطعام للأموات” (للرد على هذه الظاهرة)
4-     “حاشية على شرح ابن عقيل” (ولما تطبع هذه الرسالة)
5-    “محمود الفتاوى” في مجلدات (جمع في هذا الكتاب جميع فتاويه رحمه الله)

وفاته رحمه الله:
كانت وفاته رحمه الله في الثالث عشر من ربيع الأول سنة 1421 يوم الجمعة في مستشفى خاتم الأنبياء في مدينة زاهدان بعد ما كان رهين الفراش لمدة يومين أو أكثر في المستشفى المذكور بسبب الجلطة الدماغية.
ثم حملت جنازته إلى الجامع المكي فصلى عليه أكثر من خمسين ألف مصل في يو م الجمعة، ثم شيع الجنازة آلاف من تلاميذه ومحبيه إلى مقبرة المدينة، وشاركوا أروع مشاركة في تفويض هذه الأمانة إلى مأواه الخالد.

رحمه الله تعالى وجعل الجنة مثواه.