- سني أون لاین - http://sunnionline.us/arabic -

نظرة إلى حياة الشيخ “قمر الدين ملا زهي” رحمه الله

qamarكان الشيخ “قمر الدين ملازهي” رحمه الله أحد كبار العلماء المعاصرين في تاريخ بلوشستان وأحد فرسان العلم والعمل ومن كبار الدعاة إلى الكتاب والسنة ومن حملة لواء التوحيد والسنة في المنطقة، ومن أشدِّ الناس تواضعاً، ومحبَّةً للخير، ونفعاً للناس، وإشفاقاً على الطلبة، وحرصاً على إفادتهم، وتحصيلهم العلم، وجمعهم بين العلم والعمل.

والحاصلُ أنَّ الشيخَ ـ رحمه الله  كان عالما كبيرا وزاهدا عارفا و واعظا ناصحا أمينا لمع في سماء بلوشستان ماشاء الله أن يلمع ويتلألأ، وكان بابا من أبواب العلم والمعرفة أغلق على رواده إلى الأبد.

 

الرحلة لطلب العلم
سافر رحمه الله في طلبه للمزيد من العلوم والمعارف الدينية والإسلامية إلى باكستان شأن أبناء هذه المنطقة حيث كانوا يسافرون إلى هذه البلدة المجاورة للأخذ من العلماء وتلقي العلوم الشرعية من كبارعلماء السنة في تلك الديار .
فدرس سماحته رحمه الله تعالى على كبارمشائخ باكستان مثل الشيخ “عبد الرحمن كامل فوري” والشيخ “إشفاق الرحمن” والعلامة “محمد يوسف البنوري”. ثم تخرج في نهاية جولاته في طلب العلم والإنتفاع بالشيوخ والعلماء الكبارمن إحدى مدارس إقليم ” سند” الدينية التي كانت تقع في  مدينة “تندو اللهيار” وتعرف بـ “مدرسة العلوم الاسلامية”.  وفي هذه المدة الطويلة في طلب العلم  ورغم مشاق ومشاكل السفر والغربة، لم يتقاعد رحمه الله من القيام بمهمة الدعوة والتبليغ وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان يتردد إلى المساجد الموجودة في القري المختلفة، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ثم عاد رحمه الله بعد تخرجه من المدرسة المذكورة وهو يحمل في صدره مجموعة طيبة من العلوم والتجارب النافعة إلى بلاده، وكان مولعا بمساعدة وخدمة شعبه في بلوشستان، يفضل على ذلك كلما كان يقدم عليه من الإقتراحات والتوصيات، فلما اقترح عليه التدريس والتعليم في إحدى جامعات طهران ، وكان الشيخ “مفتي زاده” أحد كبارعلماء كردستان يشوقه على القيام بهذه المهمة ويشجعه على تولى كرسي التدريس في تلك الجامعة، ولكن الشيخ رحمه الله أنكر ذلك قائلا : وجودي في بلوشستان أهم وأنفع وسأبذل جهدي وطاقتي لخدمة أهلها ولست محتاجا إلى الشهرة والمنصب.
وقد أثبت رحمه الله عمليا حقيقة ما قاله وعلّمنا وعلّم تلامذته أجمعين درسا واحدا وهو أن نضحي بمنافعنا الذاتية لصالح المنافع الوطنية والشعبية ولصالح المنافع العامة .
والفضل في تربية الشيخ قمرالدين رحمه الله كعالم زاهد ومجاهد داع يعود إلى والده الذي كان عالما مجاهدا حيث رباه فأحسن تربيته. فقد ربى إبنا يستعد لتضحية نفسه لأجل دين وإيمان شعبه ، في كل حين وآن .
لأجل ما كان يشعر سماحته بالمسئولية أمام الظروف الموجودة في عصره رأى أن ينتقل من قريته الصغيرة “دامن” إلى مدينة “إيرانشهر” . وبعد الرحيل إلى “ايرانشهر”، بدأ نشاطاته الدينية والعلمية مع الشيخ “محمد” رحمه الله في مسجد. ثم أسس مسجد النور بعد مضي سنة من إقامته في “إيرانشهر” واتخذه مركزا لنشاطاته الدينية والعلمية .

النضال ضد الشرك والبدع

في الماضي القريب لقد عمت في معظم مناطق بلوشستان مشكلة المزارات الموهومة وكذلك مشكلة الغلو في زيارة القبور وخاصة قبورالصالحين بسبب جهل الناس وبعدهم عن القرآن والسنة والتوسل بالأموات. فكان من أهم مسئوليات  عالم داع يريد الخير والإصلاح وأول نشاط ديني لابد من جعله في أولوية نشاطاته، القيام ضد هذه الأعمال والأفعال الشركية من قبيل التوسل بالأموات والتهافت على الضرائح والمزارات الموهومة. فقام الشيخ رحمه الله ومن كان معه من العلماء في عصره بنشر التوحيد وإزالة جميع مظاهر الشرك والبدع من المنطقة، وأقنعوا الناس البائسين الجاهلين عن حقيقة التوحيد بأن الفقر والغنى والموت والحياة والمشاكل والمصائب كلها بيد الله تعالى وهوالذي يقضي جميع الحاجات ويرفعها. وقد زالت الخرافات والبدع من المنطقة ببركة جهود الشيخ وجهود سائرالعلماء شيئا فشيئا وحلت محلها التوحيد الخالص وعبادة الله وحده، كما حلت محل المزارات والضرائح الموهومة مساجد يرفع فيها إسم الله بكرة وأصيلا.

الشيخ قمرالدين في ميدان الوعظ والخطابة
والشيخ رحمه الله كان بارعا في إلقاء الخطب التي تبهر العقول وتقع في النفوس وتسحرالأعين، لأجل ذلك لقبه علماء بلوشستان بـ”خطيب بلوشستان”، وإن خطبه ومواعظه الناشئة من سويداء قلبه ربما أذرفت عيون الحاضرين والسامعين وأثرت فيهم تأثيرا بالغا.
وهو مع ذلك كله كان في صلة متواصلة مع كبار علماء بلوشستان في عصره خاصة زعيم أهل السنة السابق الشيخ “عبد العزيز” رحمه الله و”الشيخ عبد الله روانبد” شاعر بلوشستان الكبير الملقب بـ سعدي بلوشستان، فكان يشترك في جلساتهم ومحافلهم ويستشيرهم في نشاطاته الدينية والتربوية والعلمية في المنطقة ويطلع على نشاطاتهم أيضا.

جامع النور
أسس جامع النور سنة 1381من الهجرة وقد تم إحداث وتسمية المسجد والمدرسة على يد الشيخ رحمه الله، والشيخ “شمس الدين” أحد مشائخ مدينة “إيرانشهر” وإن للمسجد قصة عجيبة وهي أن الشيخ “شمس الدين” كان نائما في المكان المذكور فرأى في منامه نورا نشأ من هذا المكان وأنار العالم كله. في صباح اليوم التالي دعا الشيخ الناس والمشاهير من عامة الناس وقص عليهم مارأه في المنام وأمر الشيخ “قمرالدين” أن يقوم ببناء مسجد في هذا المحل وسموه مناسبة بهذه الرؤيا مسجد النور، وأصبح المسجد المذكور بعد ذلك مركزا للمبلغين والدعاة. ورتبت حلقات درس في تفسيرالقرآن الكريم  في هذا المسجد الجامع حيث كان يحضرها آلاف من الناس من زوايا وأطراف المدينة، وكان باعثا أساسيا ليتعرف جماعة كبيرة من الناس بالقرآن الكريم ورسالة هذا الكتاب الخالد العظيم.

مدرسة شمس العلوم الدينية
يعتبر والد الشيخ رحمه الله مؤسس هذه المدرسة حيث قام بتأسيسها في قرية “دامن” التي كان يعيش فيها. ثم تم نقل هذه المدرسة التي كانت آنذاك مركزا تعليميا صغيرا إلى مدينة “إيرانشهر” سنة 1394 من الهجرة، واستمرالتعليم والتربية الدينية فيها بنشاط كامل وجهد تام، وقد تقدمت المدرسة بعد نقلها إلى “إيرانشهر” وبعد ما تولى إدارتها الشيخ “قمرالدين” تقدما ملحوضا حيث يدرس الآن في هذه المدرسة أكثر من خمسمائة طالب في صفوفها الابتدائية والعالية. ولم يكن سماحة الشيخ مقتنعا بالدراسة في هذه المدرسة فحسب بل قام بالتدريس  في المدارس الثانوية الحكومية وغير ذلك من المراكز التعليمية العالية.
وإن من نشاطات وجهود الشيخ في مجال الدعوة القيام ببناء مصلى “إيرانشهر” الذي تم بناءه بمتابعة وإشراف الشيخ سنة 1418 من الهجرة، في مساحة تبلغ عشرة آلاف مترا  من الأراضي، وقد ظل خطيبا لأعياد هذا المصلى لفترة طويلة من الزمن.

مدرسة أم المؤمنين الدينية
في النظام العلماني السابق الحاكم على إيران فرضت لأول مرة على البنات المسلمات الإيرانيات أن يكشفن عن حجابهن في المدراس والدوائرالحكومية . فكان الشعب البلوشي من المناضلين السابقين ضد هذه الثقافة اللادينية وهذا السفور وكافة نشاطات النظام المحايدة للدين والشريعة، وبلغ الأمرإلى حد إمتنع الكثيرون من إرسال بناتهم إلى المدارس الحكومية للدراسة والتعلم.
أحس الشيخ رحمه الله خطورة هذه القضية بفراسته الإيمانية، فباشرلأول مرة في جامع النور بإعداد مكان مخصص تحضر فيه النسوة لأداء صلاة الجمعة والتراويح فيستمعن إلى المواعظ والخطب الدينية وتكون لديهن معرفة بالنسبة إلى أمورهن الدينية، ثم أسس إكمالا لذلك مدرسة دينية خاصة للبنات باسم مدرسة أم المؤمنين الدينية، تشتغل بنات هذه المدينة فيها بدراسة العلوم الشرعية وحفظ كتاب الله العظيم إلى يومنا هذا.

في المجتمع وميادين السياسة
كان الشيخ رحمه الله يهتم بقضايا الناس الإجتماعية والسياسية والإقتصادية، ولا تمنعه من الإهتمام بالأمور السياسية والاجتماعية والالتفات إلى مشاكل الناس وهمومهم المشاغل الكثيرة والعديدة. فمع عدم الفرصة الكافية ووجود المشاغل الكثيرة إن لجأ إليه صاحب حاجة أو مشكلة لما قعدعن مساعدته وحل مشكلته. وكان يملك وعيا سياسيا كبيرا يحلل دائما القضايا الداخلية والخارجية تحليلات سياسية، وكان يحل المشاكل والقضايا الاجتماعية وخاصة النزاعات الحادثة بين القبائل في “إيرانشهر” حلا يقتنع به جميع الأطراف المتنازعة، وكذلك كان يشجع الدوائر والمؤسسات الحكومية على الخدمة للشعب، ولم يكن يخاف في الله من أن ينتقد شخصا أو مؤسسة.

الوفاة
لقد كان رحمه الله يعاني من داء عضال ولقد سافر لعلاجه إلى طهران مرات عديدة ولكن السفرالأخير للعلاج كان يختلف عن الأسفار الماضية. فقد قام رحمه الله  بتوزيع وتقسيم أمور المدرسة والمسجد، فكأنه ألهم إليه أنه سيودع المدرسة وأهله في هذا  السفر إلى الأبد.
توفي رحمه الله  بعد ما كان رهين الفراش لمدة شهرين في مستشفى “مهراد” في طهران في تاريخ 10/9/1424 ، ونقل جثمانه  إلى بلده، وبعد أداء الصلاة عليه بإمامة الشيخ “محمد يوسف حسين بور”, قام أهل بلوشستان من العامة والعلماء في حضور جماهيري  بتشييعه وتفويضه إلى مأواه الأصلي بعد فراقه الدنيا الفانية  بعيون باكية وقلوب متحسرة .
ختاماً فقد ورد في صحيح مسلم  من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دعا لأبي سلمة عند موتِه فقال: “اللَّهمَّ اغفر لأبي سلمة، وارفع درجتَه في المهديِّين، واخلفه في عقِبِه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربَّ العالَمين، وافسَح له في قبره، ونوِّر له فيه”.
وأنا أقول: اللَّهمَّ اغفر للشيخ ، وارفع درجتَه في المهديِّين، واخلفه في عقِبِه في الغابرين، واغفر لنا وله يا ربَّ العالَمين، وافسَح له في قبره، ونوِّر له فيه.
وأسألُ اللهَ أن يُوفِّقنا جميعاً لتحصيل العلمِ النافع، والعمل الصالِح، إنَّه سميعٌ.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته